إلى الامام.. قف..!

اندفعت الجموع في مسيرات حاشدة، ارتفعت الأعلام واللافتات في كل مكان، مئات الآلاف من الناس قد تجمعوا اليوم في أكبر تظاهرة بشرية شهدها «وال ستريت» منذ زمن

بل وصفتها الصحف الأمريكية مجتمعة بأنها «أضخم تجمع احتجاجي بيئي حتى الآن»، اندفع العديد من أنصار حركات «احتلوا وال ستريت» السابقة للمشاركة في هذا التجمع ودعم أهدافه «الخضراء»، يريد المحتجون التأثير على كبار مسؤولي السياسة حول العالم والمجتمعين في مقر الامم المتحدة القريب من الشارع الشهير، لكن، عندما يلاحظ المرء اللافتات الإعلانية لكبرى شركات الصرافة والبنوك الكبرى وشركات «العلاقات العامة» التي تتداخل مع الوان الجماهير المختلفة، عندها يصبح الأمر مثيراً للاهتمام، وتتكشف حقائق تثير العجب بحق.
اتفق المنظمون على تنظيم هذا التجمع في الحادي والعشرين من هذا الشهر، أي قبل يومين من اجتماع الأمم المتحدة الذي «قد» يقر قانوناً يدعو للحد من انبعاث الغازات الملوثة التي تؤثر سلباً على مناخنا، أبدى الكثير من المشاركين حماسة كبيرة للمشاركة، بدأت الدعوة منذ أشهر وانتشرت النداءات لتجميع الصفوف والتحشد في هذا اليوم المنتظر، لكن عندما تتناقل بعض المواقع تصريحات الناشطة البيئية «أني بيترمان»، إحدى أقدم العاملات في هذا المجال، والتي تصف التجمع بأنه: «بلا مطالب.. وبلا أهداف.. بلا عدو.. وبلا فائدة»، عندها لابد من التوقف قليلاً لسماع وجهة نظرها، ويبدو أن الكثيرين يتوافقون معها في وجهة النظر تلك، وبالأخص عندما تنطلق من قلب التجمع دعوات «لسوق الأسهم في وال ستريت للانضمام إلى تلك التظاهرة»، يشبه ذلك دعوة القتلة المأجورين للمشاركة في مسيرة مؤيدة للسلام!
تحويل القضايا إلى سلع
تملك «آفاز» الإجابة على هذه التناقضات الغريبة التي يحملها هذا التجمع، وما يشابهها من تجمعات، هي إحدى الشركات الكبرى التي تعمل في مجال «الرأي العام» كما تحب أن تدعو نفسها، إنها تعمل على نشر وتنظيم التظاهرات المتعلقة بالعديد من القضايا الإنسانية الكبرى على موقعها الرسمي، ثم تفتح باب «التبرع» أو «توقيع العرائض الالكترونية» دعما لتلك القضايا، هي بالطبع واحدة من الكثير من «المؤسسات» التي تعمل على «تنظيم» المسيرات والتظاهرات حول العالم مهما كان نوعها وطبيعة القضية التي تنادي بها، إنها الطريقة الرأسمالية الجديدة في تحويل «القضايا» إلى «سلع» تخضع لقوانين العرض والطلب، حيث تعمل في البداية على إطلاق دعوة تجمع خاصة بقضية ما قبل عدة أشهر، ثم تعمل بالتعاون مع خبراء في مجال وسائل التواصل الاجتماعي قراءة وتحليل المنشورات الرقمية المتعلقة بهذا الحدث لتحصل على تقدير دقيق لحجم المشاركة وقوة التأثير، ثم تعمل على خلق «صورة» إعلامية لهذا التجمع بالتعاون من أقسام الدعاية الإعلان في مكاتبها، لنحصل في النهاية على «مظاهرة في علبة» تتكرر كل حين دون أي أثر حقيقي على الأرض، ولمن لا يعلم نظمت «آفاز» معظم التظاهرات المناهضة للحروب الأمريكية خلال العقد الماضي، وها هي النتيجة واضحة.
فخ الصورة التلفزيونية
إليكم ما حدث في تظاهرة «وال ستريت» الأخيرة، يمكنكم عندئذ استيعاب ما يحدث، بدأت «آفاز» بدعوة الجميع دون استثناء، حيث شارك في التجمع في البداية ممثلون عن جميع الشركات، من مجموعة «سابوي» للوجبات السريعة مرورا ببيبسي وكوكا كولا ومثيلاتها، بالإضافة إلى دعوة بعض الممثلين عن النقابات العمالية في اللحظات الأخيرة، ودونما أي تنسيق مشترك بينهم، بالإضافة إلى دعوة العديد من الجمعيات «الملونة»، التي تمثل الأمريكيين السود والأقليات الأخرى التي لم تشارك يوماً في أي تجمع بيئي حقيقي بسبب تجاهل المؤسسات البيئية المتعمد لمدى تأثير الاختلالات البيئية على المجتمعات المهمشة والفقيرة من الأقليات والتركيز على الغابات التي تبعد مئات الكيلومترات عنهم، لنحصل في النهاية على خليط غير متجانس وغير فعال درست مكوناته بعناية، يضاف إلى ذلك استخدام فخ «الصورة التلفزيونية» المفضل لدى تلك الشركات المنظمة لهذا التجمع، فهي دعت الكثير من الوسائل الإعلامية لتغطية الحدث لكنها في الوقت نفسه وضعت شرطاً غير معلن على المشاركين بضرورة التقيد بـ«أخلاق» التظاهر السلمي الذي يجب أن تشاهده «العائلة الأمريكية» بصغارها وكبارها دونما حرج، هذا إن شاهده أحد، لأنه يجري يوم الاثنين، يوم العمل الأول بعد عطلة نهاية أسبوع صاخبة ومتعبة، لا صدامات مع الشرطة ولا عنف في الشارع، فقط وجوه مبتسمة تمر تباعا في أزقة «وال ستريت» وصولا إلى «التقاطع رقم 11» في نيويورك، الزقاق البعيد كل البعد عن أنفاق المترو أو محطات الباص، لا أحد هناك ليسمع شعارات التجمع، كما أن وجود الشرطة بحد ذاته هو «ضمان لأمن» التجمع كما يقول المنظمون، لكنه في الحقيقة لضمان بقاء «المتظاهرين»، عفوا «المتجمعين»، على بعد كيلومترين من مبنى الأمم المتحدة، والذي لا يوجد فيه أحد الآن، ولن يوجد فيه أحد إلا بعد يومين!
لن أشارك المرة القادمة
مع كل هذا، يظن العديدون من المشاركين بأنهم سيحققون مرادهم من خلال هذا التجمع، وكأن أعدادهم الغفيرة سوف تثني الدول الكبرى عن مخططاتها الصناعية التي تستهلك موارد الأرض المتآكلة يوماً بعد يوم، لا يدري أي منهم بأنهم يشاركون في تجمع مدار من قبل شركات رأسمالية كبرى في مواجهة تسلط شركات رأسمالية كبرى يعمل على تفريغ جميع تلك التجمعات من محتواها ليحل محلها اليأس والعجز، وهذا ما عبر عنه شاب في العشرين من عمره عند انتهاء هذه التظاهرة وهو يبحث منذ بعض الوقت عن أقرب محطة قطارات ليعود إلى منزله: «سوف يجتمع قادة العالم يومي الاثنين والثلاثاء ليتخذوا ما يريدون من قرارات، وسنعود نحن جميعاُ إلى بيوتنا لنتناول طعامنا وننزه كلابنا، حماستي لمثل هذه التجمعات تتلاشى يوماً بعد يوم.. ربما لن أشارك المرة القادمة..»