في السطل!

في السطل!

أغمضت «فنانة الجيل» عينيها، وبدأ الماء المثلج بالهطول ليبللها بالكامل، صرخت بمرح وسط ضحكات رفاقها وهي ترتجف من البرد، بدأت بتجفيف نفسها بمنشفة قريبة وهي تبدو سعيدة للغاية، لقد انضمت لقائمة طويلة من منافساتها في تحدي «سطل الثلج» الشهير، ستتبرع هذه الفنانة المحبوبة بما يلزم من المال لمرضى التصلّب العضلي الجانبي، هي لم تسمع قط بهذا المرض من قبل، لكنها الموضة اليوم، والجمهور يحب أن يراها «مبللة».

تمكنت تلك المقاطع القصيرة من الانتشار في زمن قياسي، بدأت «التحديات» تتوالى لتشمل الرؤساء والوزراء السابقين والحاليين، مروراً بالمغنين والممثلين العرب والأجانب، ليتحول «تحدي سطل الثلج» إلى ظاهرة عالمية طغت على جميع الأحداث «الأكثر سخونة» في العالم، الكل يريد أن يتضامن دعماً لبحوث علميّة خاصة بمرض التصلّب العضلي الجانبي، أصبح «السطل» يمر فوق  رؤوس الجميع، والكل أراد أن يركب الموجة «المثلجة» ليظهر على اليوتيوب داعماً حتى وإن كلفه الأمر نزلة صدرية لاحقة، و بالأخص في عالمنا العربي الذي استقبل تلك الظاهرة وودعها «مبللاً» دون ان يدري كيف ولماذا؟ 

شيك أمام العدسات

اتفقت المحاولات الأولى على قوانين محددة لتنظيم هذا التحدي، الأمر بسيط، إما أن تسكب على رأسك سطلا من المياه المثلجة، أو أن تتبرع بمائة دولار لجمعية تعنى بمرضى الـ (ALS) أو ما يعرف بمرض التصلّب العضلي الجانبي، لكن تلك القوانين قد خضعت لكثير من التعديلات بعد أن تحول هذا التحدي إلى ظاهرة، عليك أن تتبرع وتتبلل في الوقت ذاته ، كما يجب عليك أن «تتحدى» ثلاثة أشخاص من معارفك كي يقوموا بتكرار ما فعلت، هنا يبدو هذا التحدي ذكيا ومتوفقاً من الناحية التسويقية، حيث أعلنت الجمعية  الأمريكية لمرض التصلب العضلي الجانبي بانها قد جمعت في غضون شهر واحد ما يقارب ال 750 مليون دولار من متبرعين حول العالم، يبدو المتحدث الرسمي باسم تلك الجمعية سعيداً للغاية بهذا الرقم القياسي، «سيساهم هذا المبلغ في مساعدة الكثيرين»، يرفع الشيك الضخم أمام العدسات فيعم الشعور الغامر بالانتصار، لقد ساهم الاهتمام الإنساني الجمعي بهذه القضية في إحداث فرق لأولئك المرضى المساكين، إن الحقيقة ليس بهذه السذاجة، لهذه المنظمة «غير الربحية» قصة لا تلتقطها العدسات عادة.

التسول عن طريق اليوتيوب

«أين يذهب كل هذا المال؟» يبدو هذا السؤال مشروعاً عند رؤية الكثير من تلك المقاطع «الباردة» وبعد أن انخفضت حرارة تلك الموضة العابرة، لكن السؤال الأهم: «لم يحتاج الباحثون في جمعية مرض التصلّب العضلي الجانبي إلى تمويل في الأساس؟» ألا يجب أن تؤمن الدولة لهم ما يلزم من الأموال لتنفيذ هذا العمل النبيل على أكمل وجه؟ لم عليهم أن يتسولوا هذه الأموال عن طريق اليوتيوب؟ أذكر جيدا ما قرأته عن موقع GoFundMe.org الخاص بتمويل المشاريع الصغيرة، رأيت هناك أستاذا يقوم بجمع المال لتأمين مستلزمات صالة ألعاب لأطفال مصابين بالسرطان، حقق المشروع نجاحا هائلا وأمّن الكثير من الأموال، لكن السؤال يبقى ذاته؟ هل يجب أن «يشحذ» المرء ما يحتاج من مستلزمات التعليم أو ما يختص بأبحاث الطبابة؟ هل هناك أهم من تلك الأمور في الأجندة الحكومية الرسمية؟ عليها أن تكون مؤمنة للجميع من غير منة من أي أحد.

المنظمات غير الربحية

تظهر الحقيقة عند فضح التحالف المزدوج بين ما يسمى «المنظمات غير الربحية» و السياسات الحكومية المحابية لها، حيث تختبئ تحت هذا الستار الإنساني المؤثر العديد من التفاصيل الخبيثة، إنها تختصر الحركات الإنسانية الكبرى التي تبتغي التغيير إلى حملات مضبوطة من التبرعات تدور في فلك سيطرة الشركات الرأسمالية الكبرى على كل جوانب حياتنا، بل إنها الأداة الأكثر ربحاً لتلك الشركات، لا ضرائب تفرض على تلك المنظمات ولا قوانين واضحة تنظم مواردها وكيفية توزيعها، فهي تستغل حالة التعاطف الاجتماعي وتقذف بالمشاكل التي اؤتمنت على حلها في وجه أصحابها من جديد، لكي يتم حلها من جيوب الناس، بينما تزداد جيوبهم اتساعاً في الوقت ذاته.

قالت الكاتبة الأمريكية «اودري لورد» في إطار حديثها عن استغلال العبيد: «لا تستطيع أدوات السيد أن تهدم بيت السيد»، وهذه هي الحال تماما مع «المنظمات غير الربحية»، حيث تم بناؤها في إطار لا يسمح بإحداث أي تغيير حقيقي في توزيع المصادر في أي بلد من البلدان العالمة بداخلها، هي مسؤولة فقط عن «تنفيس» الكثير من الجوانب السطحية لظاهرة «سوء توزيع الثروة» عن طريق تحويلها إلى حاجة آنية قصيرة الأمد يمكن سدها بأموال المتبرعين «الكرماء»، أولئك «المحسنين» الذين يرون فيها استثماراً مثاليا ًيجنبهم دفع الضرائب، ويحسن من صورتهم أمام العامة ، لنحصل في النهاية على شبكة مخفية من المؤسسات والأفراد تعمل على خصخصة أمور الطبابة والتعليم والإسكان بغية التحكم بها كما تريد بعد أن أمسكت بمواردها وتحكمت بقوت أفرادها، كما أن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي ساهم بخبث في صبغ العملية اللطيفة والمحببة تلك بطابع استهلاكي نراه يكرر في كل مكان، حتى يتحول إلى أمر منفر ينساه الجميع بالسرعة التي انتشر بها، كل شيء يمكن أن يتحول لسلعة معلبة إن تم تسويقه بشكل جيد!

لا داعي أن يتبلل أحد

لا يعلم الكثيرون بأن الحكومة الأمريكية وحدها قادرة على تمويل أبحاث التصلّب العضلي الجانبي إن تم الاستغناء فقط عن ميزانية إصلاح الطائرة الرئاسية البالغة 2.3 مليار دولار، فالمشكلة لم تكن يوماً في تأمين الأموال كما يفترض «تحدي سطل الثلج»، المشكلة مشكلة أولويات، وتكمن الحقيقة في إيضاح مصدر تلك الأموال ومآلها، عندها لا داعي أن «يتبلل» أي أحد على الإطلاق.

آخر تعديل على السبت, 13 أيلول/سبتمبر 2014 13:50