«الإيبولا».. صفقة العمر..

«الإيبولا».. صفقة العمر..

هرعت الممرضات إلى غرفة العناية المشددة، كان الأطباء قد تجمعوا هناك منذ بعض الوقت وتحلق الجميع حول الغرفة الزجاجية العازلة في المنتصف، بدأت المرأة في الداخل بالاختلاج كما لو أنها تعاني من نوبات صرع شديدة، بدأت الأجهزة المتصلة بها بإطلاق العديد من الأصوات التحذيرية وسط ذهول جميع الحاضرين، يبدو أن جسدها لم يعد قادراً على الاحتمال أكثر من ذلك

كان مشهد الدماء التي بدأت بالتدفق من كل فتحة من جسمها مرعباً وغير قابل للتصديق، أطرق الطبيب المسؤول رأسه وهو يشاهد الحياة تنساب من جسد هذه المريضة خلال دقائق، وأدرك بأنها لم تملك للحظة أي أمل بالشفاء، فقد علمته خبرته الطويلة مع فيروس «الإيبولا» القاتل بأن فرص النجاة ضعيفة للغاية، وها هي الصفرة المستمرة الطويلة لجهاز الإنعاش تعلن صحة توقعاته.

يبدو أن الأمر أصبح اعتيادياً، فهذا الفيروس الشيطاني يسرق الأضواء كل بضع سنين، عندها تبدأ حالات الإصابة به بالتكاثر إلى حد لا يستطيع الإعلام العالمي تجاهله، تبدأ القصة من أحد الأماكن النائية في العالم، أو في الأماكن الأكثر اكتظاظا بالسكان، ليتحول الفيروس هذا إلى وباء عالمي تستنفر من أجله وكالات الإغاثة الدولية ومنظمات الصحة العالمية وتبدأ الحملات لمكافحته وإيقاف انتشاره، و «الإيبولا» اليوم هو بطل تلك المشاهد، بعد أن تم تسجيل الكثير من الحالات الموثقة للإصابة في العديد من بلدان العالم، وبعيداً عن أماكن تفشيه المعتادة، القارة السوداء.

«زبائن» مثاليون لتسويق المنتجات

هناك الكثير حول هذا الوباء العالمي الذي يهدد البشر اليوم، وتفرد الكثير من الصفحات لمناقشة أعراضه وسبل الوقاية منه، لكن القليل يقال عن الأسلوب الذي تتبعه شركات الدواء العالمية في التعامل مع هذا المرض، فهي ترى اليوم في جموع المرضى حول العالم «زبائن» مثاليين لتسويق منتجاتها وتعلن بأن الأمر لم يتعلق يوماً بشفائهم، وبالأخص إن استهدف الوباء «إنسان العالم الثالث»، إنهم لا يستطيعون شراء قوت يومهم ولا داعي حتى لإنفاق بعض المال لمساعدتهم، ومن ناحية أخرى، لا بأس من أن تخرج الأمور عن السيطرة قليلاً، سيدفع الرعب السكان الموفورين لشراء اللقاحات والمعدات الطبية اللازمة للوقاية من هذا الكابوس «الأسود»، فإصابة أو اثنتان في أمريكا أو أوروبا جديرة بدفع الجميع إلى النزول إلى الصيدليات خائفين، سيشترون اللقاح مهما كان سعره، وستبدأ الأسهم بالارتفاع والأرباح بالتكدس، إنها صفقة العمر!

الإفلاس الأخلاقي

أثار الامر اهتمام الكثيرين من العاملين في القطاع الصحي حول العالم، ويبدو بأن لعبة الربح تلك قد أصبحت مفضوحة اليوم، حيث صرح «انتوني فاوتشي»، رئيس المعهد الوطني الامريكي للأمراض المعدية، بان لقاح «الإيبولا» سيصبح متوافرا في الأسواق في القريب العاجل، لكنه أضاف : «لقد كنا نعمل على لقاح خاص بهذا الوباء منذ أكثر من عشر سنين، ووصلنا إلى تنائج ممتازة، لكننا لم نجد أي شركة تشتري منا لقاحنا في ذلك الوقت، لم يكن الأمر مجديا من الناحية التجارية»، هي الكلمات التي أثارت استياء «جون أشتون»، عميد كلية الصحة العامة البريطانية الذي أرسل مقالا تخصصيا لصحيفة «الانتيبندنت» الأسبوع الماضي يحمل الكثير من الغضب: «إن امتناع الشركات الدوائية الكبرى عن تصنيع مثل تلك اللقاحات هو فضيحة كبرى، كما أن أعذارهم المتعلقة بالجدوى التجارية لمثل تلك العقاقير وقحة للغاية»، وخلص بكلمات واضحة : «إنه الإفلاس الأخلاقي للرأسمالية العالمية في ظل غياب أي رادع إنساني أو اجتماعي».

العلاج لا الوقاية

الحالة الصحية في الولايات المتحدة الأمريكية هي خير مثال على ذلك، حيث تعمل شركات الدواء على تخفيض نسب إنتاجها من اللقاحات على حساب العلاجات الآنية والمؤقتة للكثير من الأمراض، فهي لا تبتغي التخلص من أي من تلك الأمراض من المرة الأولى، لا بد من أن تدفع المريض إلى مراجعة المشافي والعيادات والصيدليات مرات ومرات، كما أثبتت الكثير من البحوث العلمية المستقلة بان الكثير من الأمراض المعروفة قابلة للزوال عن طريق جرعات خاصة تعطى للأطفال في سن مبكرة، كما هي الحال مع مرض السكري مثلا، حيث تود تلك الشركات الجشعة دفع المريض إلى شراء حقن الأنسولين طوال حياته بدلاً من تمويل الأبحاث اللازمة لتطوير علاج وقائي يؤخذ لعدد محدود من المرات، إلى أن تفاقم الأمر إلى حد دفع الحكومة الأمريكية نفسها إلى فرض عقوبات مالية على شركات الدواء الخاصة لدفعها إلى إنتاج المزيد من اللقاحات بعد أن انخفضت نسبة لقاحات الأطفال المدرسية في العام 2003 إلى أقل من عشرة بالمائة!

خمسون رجلاً أبيض

للعنصرية مكان أيضا في هذه الكارثة الإنسانية، فمع تفشي الوباء بشكل مطرد في أفريقيا انتشرت أخبار عن قيام شركة كندية بتصنيع لقاح خاص بذلك المرض لعلاج طبيب ألماني «أبيض» حينما تفشى الوباء في العام 2009، لقد استطاعت الشركة الحصول على لقاح قابل للاستخدام خلال أيام، لكنها اليوم تماطل في تزويد الحكومات الافريقية باللقاحات والعلاجات اللازمة، وتعمل على تسليط الأضواء على «الكارثة الإنسانية» هناك من خلال شاشات التلفزة لتثير الرعب في نفوس «زبائنها المحليين»، كما أن تلك الفاجعة قد دفعت بعض من المواقع الالكترونية الصادقة لتناول تلك السياسات البربرية بالنقد والتشهير، كان أذكاها قيام أحد المواقع الإخبارية الأمريكية بعرض الإعلان الساخر هذا : «إعلان هام : نحتاج إلى خمسين رجل أبيض إضافي فقط ليصبح لقاح الإيبولا متوفراً في الأسواق.. القليل من الصبر! »