نساء في مواجهة العوز والوحدة والغربة
سعدى علوه سعدى علوه

نساء في مواجهة العوز والوحدة والغربة

لم تتّسع الدنيا لفرحة أبي غسان، كما يعرف عن نفسه، عندما اتصل به أحد المشايخ الخليجيين طالباً مساعدته في توزيع بعض الإعانات على النازحين السوريين في إحدى المناطق اللبنانية. وأبو غسان رجل معروف بين شريحة واسعة من النازحين المعوزين الذين لا يصلهم إلا فتات المساعدات. يعمل جاهدا ليجد من يساعدهم ويرشدهم إلى جمعيات أو مراكز خدمات، كما أنه يجمع مالاً وأغراضاً من متبرعين يوزعها عليهم.

 

لم تتّسع الدنيا لفرحة أبي غسان، كما يعرف عن نفسه، عندما اتصل به أحد المشايخ الخليجيين طالباً مساعدته في توزيع بعض الإعانات على النازحين السوريين في إحدى المناطق اللبنانية. وأبو غسان رجل معروف بين شريحة واسعة من النازحين المعوزين الذين لا يصلهم إلا فتات المساعدات. يعمل جاهدا ليجد من يساعدهم ويرشدهم إلى جمعيات أو مراكز خدمات، كما أنه يجمع مالاً وأغراضاً من متبرعين يوزعها عليهم.

بعدما رحب أبو غسان بـ«المحسن الكريم»، عارضاً الأوضاع المأساوية للأسر السورية، انصرف لتجهيز «الملف» الذي طُلب منه.

قال الشيخ الخليجي، الذي يحتفظ أبو غسان باسمه وبرقم هاتفه وصورته أيضاً، انه يريد مساعدة أسر الأرامل والنساء اللواتي يعلن أطفالهن وحدهن: «مسكينات ما إلهن حدا» قال له.

أرسل أبو غسان تفاصيل عن أوضاع نحو عشرين عائلة تعيلهن أرامل أو سيدات فقدن أزواجهن أو بقوا في سوريا للقتال، وأرسلها للشيخ. عاد «المحسن» الخليجي وطلب صور السيدات مع أطفالهن. برر طلبه بأنه يريد أن يعرض صور الأسر، المرأة مع الأطفال، على ميسورين ليتبنى كل منهم أسرة أو أسرتين أو أكثر «كلٌ وفقاً لقدراته».

وافق أبو غسان، وأقنع السيدات بتصويرهن مع أطفالهن بعدما شرح السبب، وأرسل الصور إلى الشيخ الخليجي.

يومان اثنان وجاء الاتصال الموعود، وهذه المرة من رقم هاتف خلوي لبناني. وصل الشيخ «ومعه المال والحل للعائلات الفقيرة»، قال أبو غسان لنفسه. بداية، طلب المحسن زيارة العائلات على عجل، مانحاً أبا غسان مبلغاً من المال يكفي لدفع إيجارات نحو عشرين عائلة عن شهر واحد. وقال انه يريد استطلاع الوضع بنفسه.

بدأ «الفار يلعب بعب» أبي غسان، كما يقول. لاحظ أن الشيخ يطيل المكوث في بيت أو خيمة الأرامل الجميلات، «أو حتى اللواتي شكلهن مقبول»، ويستعجل الرحيل من منزل كبيرات السن أو «اللاتي لا يعجبه شكلهن»، كما يؤكد الرجل. وكان «المحسن» يحرص على الاتفاق مع النسوة على سبل للتواصل.

يوم.. يومان، ولم يرن هاتف أبو غسان. قال الرجل لنفسه «ربما ينتظر تحويل الأموال من الخليج وبعدها سيتصل». جاء الاتصال من حيث لم ينتظر. اتصلت به إحدى الأرامل وطلبت منه المجيء فوراً إلى منزلها، وهي تبكي عبر الهاتف.

أبلغته أن الشيخ عاد لوحده إلى منزلها وعرض عليها بصريح العبارة أن يستأجر لها شقة مريحة وأن يتكفل بإعالتها مع أطفالها الخمسة في مقابل «عقد زواج براني».

الكلام نفسه رددته سيدة أخرى، بينما علم أن أرملة اختفت مع ابنتها البالغة من العمر 13 سنة «راحت مع الشيخ»، قالت له إحدى جاراتها. الجارة نفسها عادت وأخبرت أبا غسان أن الفتاة هربت بعد شهر من شقة والدتها لأن الأخيرة لم تكتف بإقامة علاقة مع الشيخ بل عمدت إلى تزويجها له «براني».

صارت «الفقيرة بنت شارع»، هكذا وصفت المرأة «العروس الصغيرة»، مضيفة «وفهمك كفاية». يقول أبو غسان إنه تابع موضوع الشيخ بدقة وعلم أن العديد من النساء تجاوبن معه، فيما رفضت أخريات عرضه، مؤكدا أنه ما زال على الأراضي اللبنانية «وربما التحق به آخرون من بلاده».

 

النازحات أكثر من النازحين

ليست معاناة السيدات السوريات النازحات سراً، أو اكتشافاً.

تشير أرقام المسجلين لدى المفوضية العليا لشؤون اللاجئين الى أن نسبة الإناث من النازحين تفوق نسبة الذكور. فالنسبة الأكبر من ضحايا الحرب في سوريا هم من الرجال، كما أن الرجال يشكّلون وقود الحرب الدائرة والمستمرة هناك، ومن الطرفين.

كما أن نسبة النازحين من الذكور الذين ينتمون إلى الفئة العمرية بين يوم و17 سنة (أي الأطفال) تتجاوز خمسة وستين في المئة، بينما لا يتعدى عدد الذكور من عمر 18 سنة وما فوق، الخمسين ألفا من أصل نحو 450 ألف نازح مسجل، أو قيد التسجيل.

تترك هذه الأرقام العبء الأكبر في تحمل المسؤولية على النساء. نساء تعرض بعضهن، وفق تقارير موثقة للمنظمات الدولية، لجميع أنواع العنف: العسكري، والجسدي، والجنسي، والاقتصادي والمعيشي والمجتمعي.

حالات اغتصاب مؤكدة، وإباحة معاملتهن كسبايا وفقاً لفتاوى رجال دين متطرفين. حالات اعتداء على بعضهن في مخيمات الأردن وتركيا وثقها الإعلام والمجتمع الدولي. وعلى إثر اغتصاب صبية نازحة في مخيم الزعتري في الأردن، اندلعت اشتباكات بين أفراد الأمن الأردني وبين رجال من النازحين.

وفي قلب العنف نفسه، تعيش المرأة السورية الألم مضاعفاً عشرات المرات. فهي الأم والأخت والزوجة والابنة التي تفقد، وتفتقد رجالها على ضفتيّ الصراع. هي المشاركة في الأحداث، أو في مواجهتها، لتدفع حياتها ثمناً أو اعتقالا. هي «الضلع القاصر» والتي يعمد الذكور إلى «إهانة» بعضهم البعض عن طريق اغتصابها أو «سبيها». وهي «فشة خلق» الرجل المعنف على الأصعد كافة.

هي المسؤولة عن إعالة الأسر وحمايتها، صامدة كانت أو نازحة، أم هاربة في الجرود على الحدود بين سوريا ولبنان في ظروف خطرة ومهلكة في بعض ألأحيان. وهي أيضا «السلعة» الأسهل التي يبقى الطلب عليها كثيفاً في كل مكان وزمان. بهذا المعنى، تدفع النساء السوريات بالدرجة الأولى، ومعهن أطفالهن، الثمن الأكبر لما يحصل في سوريا.

زوجات .. للبيع

«رزق الله صديقك بزوجة جميلة ومرضية، ألا تريد واحدة؟» سأل أحد المشايخ شابا ثلاثينيا متزوجا منذ أربع سنوات. استغرب الشاب السؤال، ولم يأخذه على محمل الجد، إلى أن أضاف الشيخ قائلاً «ما بتكلفك أكتر من مئة وخمسين دولاراً».

لم يكن الشيخ، وهو إمام أحد المساجد التابعة لإحدى الجمعيات الإسلامية، يمزح. يقول ان الدولارات المئة والخمسين هي لتسجيل الزواج في المحكمة الشرعية، أمّا العروس، فسورية.

ولدى قيام «السفير» بسؤال الشيخ حول صحة تلك المعلومات، لكن من دون الإفصاح عن الهوية الصحافية، يؤكد حصول الزيجات بتدبير منه «لست أنا من يبحث عنهن، هن يأتين إلينا».

يسأل الشيخ عن الرجل الذي يطلب زوجة «عمره، وطائفته». يرفض عريساً من طائفة مغايرة مفترضاً «لا يجوز تزويج الفتيات السوريات لأبناء طوائف أخرى، كمان ما بيتأمن لهم، بعضهم يشرّع زواج المتعة».

يشرح أن «المهر طبيعي وشرعي»، لكنه لا يحدد قيمته: «هذا حسب كل حالة». ينفي أن تكون العائلات السورية «عم يبيعوا بناتهم، بس الأوضاع صعبة على الناس، والزواج على سنة الله ورسوله».

يعد إمام المسجد، الذي لا يتجاوز عمره الخامسة والثلاثين عاماً، بأن يجد عروساً سورية تناسب وضع رجل ستيني قصده «في نساء أرامل، في نساء مع أولادهن، بس صبية صغيرة عزباء صعبة لواحد بعمره، يمكن ندبر له شي أربعينية» يقول.

يعطي مثلاً يؤكد كلامه «في شاب ثلاثيني طلب يد بنت 15 سنة ورفضته، فمش ممكن تقبل بستيني، في فارق كبير بالعمر».

وفتيات أيضاً..

ليس الشيخ هو الأول أو الوحيد الذي يعتبر أنه يساهم في «ستر» الفتيات والنساء السوريات. هناك لائحة بعدد من المساجد وأسمائها، في مختلف المناطق اللبنانية، يقوم أئمتها بالمهمة عينها.

إلا ان المخيف في الموضوع ليس «تدبير العرسان» بحدّ ذاته، بحجة تأمين «الستر»، بل يكمن الخطر في تزويج الفتيات الصغيرات من جهة، وفي قبول بعض الأسر بتلقي المال «ثمنا لبناتهن» على أساس أنه المهر من جهة ثانية. كما أن تعدد الزوجات بات سهلا لدرجة وكلفته زهيدة.

يقول مفتي احدى المناطق إنه عمم على المشايخ في نطاق سلطته «عدم عقد زيجات لفتيات تحت سن ستة عشر عاماً، مؤكداً إبرام نحو عشرين عقد زواج في الشهر بين السوريين أنفسهم، وبين سوريات ولبنانيين. ويلفت المفتي إلى أن معظم العقود تفتقد الأوراق الضرورية التي تسمح بإثباتها في المحاكم الشرعية «إذ يتعذر على البعض تأمين الأوراق الثبوتية والهويات بسبب الأحداث في سوريا»، متوقعاً وقوع مشاكل اجتماعية كثيرة جراء ذلك، بدءا من مصير الأولاد الذين ينتجون عن زيجات مماثلة، وصولا إلى كيفية صون حقوق الزوجة نفسها.

بعض المشايخ، ومعهم منظمات إغاثية، يصادفون حالات لا تحصى لنساء حوامل أو وضعن حديثاً، وليس لديهن أي إثبات عن هوية الأب وذلك لتعذّر الحصول على الأوراق من سوريا «لا يمكننا التأكد من هوية الأب، أو حتى وجوده الفعلي»، يقول المفتي نفسه.

إلى ذلك، يشهد مسؤول عن الملف الإغاثي في إحدى الجمعيات أن رجلاً خمسينياً تزوج بفتاة سورية مراهقة في مقابل إسكان ذويها في شقة.

في المقابل، تفيد بعض التقارير الأمنية بأن جزءاً لا يستهان به من شبكات الدعارة بدأت «بزواج القواد» من فتيات صغيرات مقابل مبالغ مالية، ومن ثم دفعن أو إرغامهن على العمل في البغاء.

ويؤكد رؤساء بعض البلديات التي يكثر فيها النازحون زيادة نسب جرائم الدعارة في نطاقهم البلدي بشكل لافت لدرجة فرضت عقد اجتماعات خاصة لمناقشة سبل مكافحتها.

أرخص من الخادمة

لم تكن السيدة التي تنتظر دورها أمام إحدى المنظمات الدولية تريد المشاركة في الحديث الدائر عن تزويج الفتيات السوريات، بالرغم من أنها كانت تسترق السمع على الحديث الدائر بالقرب منها.

لحظات وتطلب منها جارتها أن تروي ما حصل مع ابنتها. «اتركيني بهمي»، تجيب. عندها بدأت الجارة الكلام، راوية أن أم سامر (اسما مستعارا) نزحت مع زوجها وأولادها الثمانية. الزوج مصاب على ما يبدو في الحرب بما يكفي لتعطيل يده اليمنى والتسبب بشبه شلل في اليسرى. تسكن العائلة في خيمة في أحد السهول القريبة من التجمعات السكنية.

تعمل الأم والفتيات الثلاث، وكبيرتهن في الثانية والعشرين من العمر في قطاف الخضار، وأحياناً في تنظيف المنازل. في أحد الأيام، استوقفتها سيدة في الطريق وسألتها مباشرة «اسم الله، عندك شي عروس من بين هالصبايا».

بعد أخذ ورد، قالت السيدة انها تسكن مع ولدها المقعد في منطقة بعيدة عن حي الخيم، وإنها تريد تزويجه من «صبية عاقلة ومش متطلبة». تم الاتفاق ومن ضمنه ثلاثة ملايين ليرة دفعت كمهر للعائلة. بعد أسبوع من الزواج، تم ترحيل العاملة الاثيوبية التي كانت تخدم العريس وأمه. «يعني صارت بنتي الخادمة»، تتحسر السيدة التي غضت مع ابنتها النظر عن عجز الزوج، في مقابل العيش في بيت ميسور.

لا فرق بين الطوائف

لا يبدو على السيدة التي تحمل رضيعاً على يدها أنها تجاوزت الأربعين من العمر. كانت تبحث عن غرفة تستأجرها، أو عن العمل كناطورة في أحد المباني «بس بدي مكان يؤويني مع الأولاد» قالت.

قبل عشرة أشهر، نزحت السيدة مع أولادها الخمسة من معرة النعمان بعدما قتل زوجها في المعارك التي دارت هناك «أي أنه استشهد مع الجيش السوري الحر»، تقول بصراحة مستفيدة من الجو الحاضن للثورة السورية في منطقة نزوحها.

عرض صاحب إحدى المزارع على بكرها البالغ من العمر 16 سنة العمل في مزرعته وأخبره أن هناك غرفة مع منتفعاتها يمكنه السكن فيها مع أمه وأشقائه. لم يخف عليه أن في الغرفة عاملاً سورياً، ولكنه أكد له أنه سيرحل بعد أسبوع، وأنه في جميع ألأحوال لن ينام مع العائلة في الغرفة نفسها بل «في تخشيبة حد الغرفة».

وافقت السيدة على الذهاب مع ابنها بعدما تعبت من البحث عن مكان يؤويها لكونها عاجزة عن دفع حتى مئة ألف ليرة كبدل إيجار. لكن حساب الحقل لم يتناسب مع حساب البيدر.

لم يرحل العامل السوري بعد أسبوع كما وعد رب العمل ولدها، بل تبيّن أنه يشاركهم المرحاض، وأن عليهم السماح له بالاستحمام يومياً في دورة المياه نفسها. أعجب العامل بابنة السيدة التي لم تبلغ الخامسة عشرة من عمرها بعد، وطلبها للزواج.

رفضت العائلة والفتاة معاً «ما منعرف لا أصله ولا فصله، كيف بدي زوجه بنتي»، تقول المرأة. إلا إن ربّ العمل قصدها ذات يوم خلال وجود ابنها في الحقل، عارضاً عليها عقد زواج متعة معه «ما فيها شي، هيدا عقد شرعي ومش حرام» قال لها. تضحك جارتها وتقول لها «بتستاهلي..شو أخدك لعند الشيعة». تنظر المرأة إلى جارتها وقد ترقرق الدمع في عينيها «ليش السنة أحلى، أو المسيحيين يا شاطرة؟»، ترد كمن تسألها.

صاحب الدكان القريب من المزرعة طلب منها أن تتزوج به زواجاً «مسيارا»، أو «عرفيا»، مؤكّدة أن مسيحياً يعمل في إحدى منظمات ألإغاثة وعدها بإغراقها بالمساعدات إن قبلت معاشرته. أصبحت المرأة تعاني «عقدة» اسمها الرجال «شو مفكرين حالهم، والله بعدني حادة بالتياب السود على زوجي»، تقول ودموعها تغسل وجهها.

أخذ العامل السوري يفتعل المــــشاكل مع ابنها، وعدل عن الرحيل مصراً على مشاركتهم المرحاض والمطــــبخ، مستمرا في محاولاته المتكررة للإيقــــاع بالفتــــاة. ربّ العــــمل لا يكل عن محاولة إغراء الأم بـ«المتعـــة» كل يوم ومــــعها وعـــود «قبر الفـــقر»، أما صاحب الدكـــــان فوضعت حداً له بالعـــدول عن شراء حاجــــاتها من عنده، بينما شطبـــها عامـــل الإغاثـــة الكــــريم عن لائحة العــــائلات المعوزة.

تقول السيدة إن ما حصل معها لم يزدها إلا عزماً على مواجهة الجميع «بدهم يفهموا أنه الناس عندها كرامات». وللحفاظ على كرامتها لم تترك فرصة للعمل في الزراعة، وفي الخدمة المنزلية إلا وقبلت بها، ببدل لا يتجاوز الثلاثة آلاف ليرة مقابل كل ساعة عمل في التنظيف، وألف وخمسمئة ليرة في قطاف الخضار. تشترط أمراً يتيماً هو أن «أصطحب ابنتي معي لأحميها من العريس المصر على تزوجها مهما كان الثمن».

 

السفير

آخر تعديل على السبت, 12 تشرين1/أكتوير 2013 14:27