أفلام هوليوود وألعاب الحرب... تسلية الشعوب أم تلاعب بالوعي؟

أفلام هوليوود وألعاب الحرب... تسلية الشعوب أم تلاعب بالوعي؟

لقد باتت ملامح الأفلام الهوليوودية النموذجية جزءاً من الخطاب الثقافي السائد. تُعرّف الأفلام ذات «المكانة المرتفعة» أو «الضاربة» بالتي تتجاوز ميزانية إنتاجها المائة مليون دولار، والتي ينفق نصفها على حملات الترويج، إضافة إلى الاستثمار في التكنولوجيا المتقدمة لمشاهد التفجير والمؤثرات الخاصة التي يتم إنتاجها عبر الحاسب. إنّ شركات إنتاج هوليوود هي جزء من شركات الإعلام والاتصالات العملاقة، والتي ترتبط بصناعات الإلكترونيات والعقارات، وحتّى بصناعات الطائرات والمعدات العسكرية.

سكوت فورسيث وآخرين
تعريب وإعداد: عروة درويش

إنّ الأفلام هي «وَتَد الخيمة» في المسار الإستراتيجي لتوسيع دائرة السلع الاستهلاكية، التي باتت تتضمن الفيديو والتلفاز والإنترنت والقصص المصورة والروايات والألعاب والدمى والثياب وسلاسل المطاعم السريعة والحدائق الترفيهية، لتصبح الصناعات الترفيهية رائدة في الصادرات الأمريكية. وتعتمد هذه الدائرة بشكل متزايد على السلاسل والأفكار والحبكات والقصص المعاد إنتاجها، والمرتبطة جميعها بعضها ببعض في عملية مكررة تُنوّع الإيرادات وتتفادى المخاطر، التي تشهدها الأفلام الفردية، التي تخسر المال.
الفيلم السينمائي بوصفه سلعة
على القدر ذاته من الأهمية، فإنّ هوليوود باتت تعرّف بابتكارها التقني والرأسمالي. فالفيلم السينمائي بوصفه منتجاً اليوم يجبر المتنافسين على التنافس على أعلى مستوى، وهذا ما يتم ضمن إطار الهيمنة الثقافية المدعومة من «رأس المال المالي»، الذي يموّل ويوزع وينظم الإنتاج على نطاق عالمي.
بدءاً من التسعينيات، استطاعت هوليوود، عبر طُرق لا تعدّ ولا تحصى- من أبرزها دعم الدولة وجماعات الضغط والمفاوضات التجارية- زيادة حصتها بشكل هائل من السوق العالمية. لكنّها بالإضافة إلى ذلك استطاعت فرضت سيطرتها بشكل هائل على المسارح والقدرة الإنتاجية في معظم البلدان. وحتّى مع الحماية التي تتمتع فيها الصناعة السينمائية في بعض البلدان، باتت هذه الصناعات غير قادرة على المنافسة، وتحولت إلى مجرّد مصانع يستخدمها الإنتاج الهوليوودي، وموردة للعمالة الماهرة الأزهد ثمناً، ومصدراً لرأس المال وملهمة للأفكار والأساليب المبتكرة ومصدّرة للمواهب والنجوم الجديدة. إنّ ما يحدث هنا هو أكثر من مجرّد تطور لصيغ الإمبريالية الثقافية السابقة، بل هو الدمج المادي للصناعات السينمائية الوطنية في ما سمّاه ميلر: «قسم العمالة الثقافية الدولية المهيمن عليه أمريكياً».
الاحتفاء بالفرادنية الأمريكية وبأبطالها الخارقين
إذاً الفيلم الهوليودي هو سلعة رئيسة للإمبريالية الأمريكية اليوم، ونمطه المفضّل هو «أفلام الحركة». لطالما كانت أفلام الحركة مركزية في تاريخ السينما، لكنّها لم تكن يوماً مهيمنة كما هي الحال في العشرين عاماً الماضية التي شهدت تكثيف النشاط الهوليودي. يدافع بعض النقاد عن أفلام الحركة بكونها ذات ريع شعبي وبأنّها تجذب الكثير من الناس، كما يقوم بعض النقاد بتحليل أفلام الحركة باعتبارها مجرّد قطعة أخرى في سلسلة من الأفلام التي كان ولا زال همّها الوحيد هو تقديم المتعة والتشويق والجذب. لكن بالنسبة لهؤلاء فإنّ أميركا لا تقوم بأكثر من تسلية العالم بمنح الشعوب ما تريده. لكنّهم يتجاهلون، عمداً أو سهواً، بأنّ هذه الأفلام تعكس بطبيعتها قدرة رأس المال الأمريكي وتنظيمها للشركات والتكنولوجيا، وبأنّ أيديولوجيتها تجسّد بشكل كثيف الاحتفاء بالفرادنية الأمريكية وبأبطالها الخارقين، وبصراع الخير ضدّ الشر والسحق المتكرر لأعداء أمريكا.
يمكننا أن نستشهد بسهولة عند الحديث عن أفلام الحركة، وتحديداً عن أفلام الحرب المرتبطة بالعسكرة الأمريكية، بالطريقة التي أثرت فيها هوليوود علينا كمتفرجين. عندما قال الرئيس بوش بأنّه يريد بن لادن حياً أو ميتاً، ميزنا جميعنا الاقتباس السردي لأفلام الغرب. كما أننا بتنا نعرف «العدو» من خلال التمثيل العنصري للعرب في مئات الأفلام على مرّ السنين. عندما تسلّق بوش الطائرة الحربية المتوقفة على مدرج حاملة الطائرات ليقف بشكل يبرز العضلات، تذكرنا جميعنا الممثل توم كروز في فيلم «توب غون» عام 1986. عندما سخر بوش من العراقيين الذين تم سحقهم بقوله: «فليرونا أفضل ما لديهم»، تذكرنا جميعاً على الفور السرد الحواري لأبطال أفلام الحركة الأمريكية.
وإن أخذنا مثالاً عن حرب الخليج الأولى والتي أريد بنا فهمها على أنّها تشبه لعبة فيديو، فقد تم تقديم حرب العراق وأفغانستان على أنّها عرض رياضي حين تصرفت وسائل الإعلام المترابطة مثل «سي إن إن» و«فوكس» بشكل يُوصل الحرب على أنّها حدث ممتع من خلال اللقاءات مع أبطال الحرب، وتغطية الصحفيين للنجوم والشعارات المرفوعة والموسيقى المستخدمة. إنّ ما يحكم إنتاج واستهلاك هذه الحروب هو النموذج الأساسي لأفلام هوليوود اليوم. لقد كان العمود الفقري المنظم لهذه الأحداث هو «الفيلم- المنتج» المثير، بحبكته الدرامية وصوره وهَوْله العسكري وعرضه للسلاح وعروضه التكنولوجية، وأخيراً بعرضه لانتصار الخير الأمريكي على جميع الشرور.
أنسنة الحروب الأمريكية
إنّ النخب الأمريكية متلهفة لتغليف حروبها ضمن عباءة الحرب الجيدة. يتم استحضار الحرب العالمية الثانية بلا كلل، من خلال السرد الحواري والتصويري، للإصرار على أنّ كلمة الولايات المتحدة تساوي الحقوق العالمية. لقد اعتمدت الإمبريالية الأمريكية على الآلة «السينمائية- السياسية» في تقديم الحرب العالمية الثانية كما تراها لمدّة عقود. قدمت أفلام الحرب منذ الأربعينيات من القرن الماضي مجموعة من القصص والروايات التي لا يزال وقعها مؤثراً. ونخص منها تلك التي تبيّن مجموعة قتالية معزولة ومهددة بالإفناء والتي تمثّل أمريكا بملاحمها وشجاعتها والتزامها بالرفاق. إنّ الأفلام التي تمّ تقديمها منذ الخمسينيات إلى السبعينيات، مثل «من هنا للأبدية 1953» و «اليوم الأطول 1962» و «باتون 1970»، قد أعادت تقديم الأساطير عن فردانية دور أمريكا في الانتصار. ثمّ بدأت السينما تعيد تجديد إنتاج هذه الأساطير من التسعينيات ليشكّل فيلم «إنقاذ المجند رايان 1998» أحد أهمّ هذه التحديثات، حيث يظهر الجنود الأمريكيون وهم يقاتلون ليس لتحقيق هدف سياسي ولا هدف إيديولوجي، بل لإنقاذ المجنّد الذي ضحّت والدته بجميع أشقائه شهداء. لقد تمّ تقديم هذه الأفلام بأكثر الطرق الروحانية إمكانية لتظهر أنّ انتصار الراية الأمريكية في النهاية إنّما هو انتصار لجميع البشر.
وتنهج السينما الأمريكية نهج إرباك المشاهد في الحروب المعروضة في أفلامها. فمثلاً فيلم «كنّا جنوداً 2002» الذي يتحدث عن حرب فيتنام يظهر الكولونيل مور الذي يلعب دوره الممثل ميل غيبسون، وهو الشخصية الأبوية لأسرته ولجنوده على السواء، وهو يقدم نفسه كمجرّد «شاهد على حرب لم نفهمها» ليقوم بعناية بنزع الجانب السياسي عن الحرب وإضفاء صفة «مقاتلي الفضيلة» على الجيش الأمريكي. فمنتجو الفيلم تناسوا كلّ وقائع وأحداث حرب فيتنام، ليظهر الكولونيل مور وهو كاره للحرب التي تجلب المآسي، ولكنّه مضطر ليقاتل لأنّ هنالك أشراراً في العالم. علاوة على ذلك تقوم هذه الأفلام بعناية بطرح المعارك على أنّها تتم من قبل محترفين عسكريين حكم عليهم القدر بالتلاقي، لتقلّص الحروب إلى كونها مجرّد «جيوش متنازعة» لا دخل للمدنيين بها، وخاصة المدنيين الذين تستهدفهم الآلة العسكرية الأمريكية، أو التي تدعمها على الدوام. تقوم هذه الأفلام بشكل منهجي بأنسنة الحروب الأمريكية.
وكما يشير فريدريك جيمسون، فإنّ العديد من أفلام الإثارة الحربية والتجسسية المواربة، هي وشخصياتها الشريرة المهووسة بتدمير العالم تقدّم صورة عن الرأسمالية العالمية. فجميع العنف غير المرئي والتلاعب والخراب يتم تقديمها كمنتج فرعي يسهل فيه علينا تخيّل نهاية العالم أكثر من صورة الرأسمالية نفسها.
الألعاب كأداة تأثير سياسي وثقافي
قال منتج الأفلام الفرنسي الراحل فرانسوا تروفاو ذات مرّة: «ليس هنالك ما يدعى أفلاماً مناهضة للحرب»، ليشير إلى المغامرة والتشويق في القتال، وإلى القطع الواضح «عادة» بين الأبطال والأشرار، والفرصة التي تمنحها للمنتجين لاستخدام الألعاب النارية المذهلة والمتفجرات السينمائية ذات الصوت المدوي. وأكثر هذه الانفجارات صخباً وإثارة للذهول هي تلك التي تحوي غمامة فطر نووي.
وينطبق الشيء ذاته على ألعاب الفيديو، وربما ينطبق بطريقة أسوأ حتّى. مثلها في ذلك مثل أفلام الحرب، تستغل ألعاب الفيديو بشكل متكرر الجوانب المثيرة والدرامية للحرب. لكن، وعلى عكس مشاهدي السينما، لا يستهلك اللاعبون إعلام اللعب بشكل سلبي، بل يقومون باتخاذ قرارات ليؤثروا على مجرى سير الأحداث. والنتيجة هي: خلق بيئة محاكاة وتفاعل بالصميم. وما الذي يمكن أن يكون أكثر تفاعلاً من التعرّض المباشر والشخصي لضربة نووية؟
اتخذت الكثير من الألعاب القنبلة النووية كخلفية لأحداثها، وأكثرها شهرة والذي يصلح مثالاً نموذجياً للنواحي التي سنتناولها في حديثنا هنا هي لعبة «السقوط Fallout» ذات الأجزاء المتعددة، والتي تأرجحت بين الهزء من القنبلة وتقديس قوتها. لكنّها الآن ربّما قطعت الخطّ الرفيع الفاصل بينهما. إنّ هذه الألعاب هي بكل تأكيد وسيلة الإعلام الأكثر شهرة، والأكثر إثارة، التي تتطرق إلى الأسلحة النووية اليوم. ولهذا علينا أن نتعامل معها بكثير من الجديّة بوصفها أداة تأثير على سياسة وثقافة العالم الواقعي بما يخصّ الأسلحة النووية في القرن الحادي والعشرين.
«السقوط» وتطبيع السلاح النووي
كي نعطي لمحة عن هذه الألعاب «مستخدمين لعبة السقوط كمثال نموذجي» للذين لم يجدوا الفرصة لتجربتها، فإنّ هذه الألعاب وأجزاءها الكثيرة تدعو اللاعبين لتعقب أحداث خيالية ذات إسقاطات واقعية. ففي لعبة «السقوط» يقوم اللاعبون باستكشاف الولايات المتحدة في حقبة ما بعد الدمار، حيث تكون مهجورة بعد قيام حرب نووية مع الصين في عام 2077. وكلما تطورت السلسلة يمنح المطورون اللاعبين قدرة الوصول أكثر فأكثر إلى الأسلحة النووية. والسلسلة التي بدأت بالهزء من التكنولوجيا النووية تبدو الآن وكأنّها تشجع بنشاط استخدامها مع الإصدار الجديد المسمى «السقوط 76».
وكي نكون واضحين، فسلسلة ألعاب «السقوط» لم تعلن يوماً عن نفسها بأنّها مناهضة للحرب بشكل صريح. وهم لم يقدموا نفسهم يوماً على أنّهم لعبة تثقيفية. ولكنّ حسّ السخرية الموجود في السلسلة لطالما استهدف في نكاته الغطرسة التي تبجّح بها العلم والسياسة والمجتمع والصناعة في القرن العشرين. والكون الموازي الذي خلقه مطورو اللعبة يبدأ بالانفصال عن عالمنا منذ الحرب العالمية الثانية، حيث تخيلوا بأنّ عالم أحلام الروبوت والسيارات العاملة بالطاقة النووية قد تحقق في الواقع.
لكن وبأبعد ما يكون عن العالم الفاضل، فإنّ التكنولوجيا النووية في عالم لعبة «السقوط» تقود إلى انهيار مريع للحضارة البشرية المنظمة في الولايات المتحدة وفي بقية الكوكب. القنبلة هي السبب الوحيد الأكثر وضوحاً. فقبل الحرب أشعلت الطاقة النووية الشهيّة الاستهلاكية وأطلقت العنان للشركات الكبرى لنهب الموارد الطبيعية للقارة وسممت البيئة. وقد قادت سيطرة مجمع الصناعات العسكرية إلى تشكّل الدولة العسكرية وإلى الاضطراب الاجتماعي وإلى التوتر الدولي.
إظهار العالم النووي كأمرٍ مسلٍّ
باختصار، لا يمكن اعتبار إعدادات سيناريو لعبة «السقوط» محبّة للعصر النووي. فبينما يتحرك اللاعبون في أمريكا بعد الحرب النووية الكبرى، فإنّهم يواجهون آثار التناقضات الباقية منذ عصر تأييد القوّة النووية. فستجد إعلانات عن مياه غازية باقية منذ ما قبل الحرب: إعلانات «نوكا كولا» في كلّ مكان. حتّى أنّك ترى بأنّ بيع هذه المياه الغازية قد تمّ مع إدماجها بالنظائر النووية المشعة. وأثناء كلّ هذا يكافح اللاعبون لحلّ صعوبة إيجاد الطعام والمياه التي لم تتلوث بالإشعاعات النووية. فإذا ما تعرّض اللاعب لكميّة إشعاعات «Rads» تفوق الحد فستموت الشـخصية. لقد تمّ إظهار العالم النووي بأنّه مهزلة بالمقارنة مع عواقبه المرعبة.
ثمّ أتت لعبة «السقوط 3» التي أطلقت عام 2008 لتكون الأولى في السلسلة التي تمنح اللاعبين سلاحاً نووياً نافعاً. يتم منح اللاعب الخيار لتعطيل أو تفجير القنبلة الذريّة غير المنفجرة والموجودة في مركز مدينة ذات تسمية بسيطة هي «ميغاتون». وأيّاً كان الخيار الذي سيتخذه اللاعب فستكون العواقب غير قابلة للعكس وسيتم الشعور بوطأتها لحين ختام اللعبة. عند اختيار اللاعب تفجير القنبلة ستتم مكافأته بمنحه موطناً ذا دفاعات شديدة في أرض قفر، لكنّه سيقتل الشخصيات التي تعيش هناك بشكل دائم، لتموت معهم مجموعة كبيرة من الخيارات وإمكانات التبادل التجاري مع الغير. إنّ خيار التحكّم في لعبة «السقوط 3» قد منح اللعبة سمعة عن كونها تمنح اللاعبين خياراً مضللاً وذا عواقب كبرى.
كما شهد سيناريو «السقوط 3» إضافة سلاح «الرجل السمين» المستلهمة على ما يبدو من الواقع من المنظومة العسكرية المريعة في الخمسينيات المسمّاة «ديفي كروكيت»، والتي تمّ تصميمها لتطلق قذائف ذريّة من أداة لا يتعدى حجمها قاذف «البازوكا». حيث يقوم سلاح «السمين» (الذي لا يجب الخلط بينه وبين قنبلة الرجل السمين الذي تمّ إلقاؤها على ناغازاكي) بإرسال قنابل صغيرة عابرة للمسافات تترك الأهداف محترقة مقطعة الأوصال ملوثة بالإشعاع. أثارت الرسالة الضمنية من وراء إدماج مثل هذا السلاح في اللعبة الجدل بشكل كبير في وقتها. لكن رغم ذلك فإنّ نسخة اللعبة هذه لم تفعل الكثير للتشجيع على استخدام السلاح النووي. فسلاح «السمين» البطيء يمكنه قتل مشغله، وهو كذلك شبيه إلى حدّ ما بسلاح «ديفي كروكيت» الذي كان يرمي حمولة المقذوف على بعد ميلين من وجود الرامي أثناء التجارب. وتتفاقم هذه المشكلة الكارثية في سيناريو اللعبة في أنفاق وخرائب مدينة واشنطن حيث تدور أحداث اللعبة. وهي تحايل ساخر ذكيّ على السياسات النووية المضللة.
لا عواقب مريعة لاستخدام النووي!
ثمّ أتت النسخة «السقوط 4» حيث غيرت طريقة مقاربة الأمر ومنحت اللاعب القدرة على التلاعب بالسلاح «السمين» وتعديله بحيث يصبح أكثر تفضيلاً ويتم استخدامه دون الخطر المستمر الذي يخشاه اللاعب في أن يدمر نفسه عندما يدمر الآخرين. ومع تغييرات أخرى في اللعبة بات بإمكان اللاعب في هذه النسخة أن يستخدم الأسلحة النووية من قاذفات وألغام وغيره بشكل أكثر أماناً، ودون الخشية من عقبات أخلاقية أو عمليّة تقف في وجه هذا الاستخدام.
أمّا النسخة الجديدة «السقوط 76» فقد مضت خطوة أبعد حتّى هنا، حيث تشجعك أنت واللاعبين الآخرين على الشبكة أن توقعوا مع بعضكم معاهدة صداقة ثمّ تضربون صواريخ بالستية على الأماكن الأخرى على الخريطة، ومن ضمن الخيارات أن تضرب أشخاصاً آخرين في اللعبة ذاتها وليس بالضرورة الروبوت. وإذا ما دمرت خصومك فستحصل على غنائم قيمة يجمعها اللاعبون الفائزون، ليخلقوا بيئة جديدة يجب استكشافها واستغلالها. ولكن ماذا لو أنّ الاستخدام المكثف للأسلحة النووية قد بات متفشياً والإشعاعات منتشرة؟ سيسعد اللاعبون المنتصرون بأنّ يعلموا بأنّ التأثير لن يدوم أكثر من وقت بسيط. ولإعطاء إحساسٍ بالمقاييس الزمنية المتضمنة في العالم الحقيقي، لاحتواء البقايا المشعة من الحادث الذي وقع في مفاعل «تشرنوبيل» (الذي تشابهت آثاره مع قنبلة قذرة ضخمة واحدة)، كان على المهندسين بناء 32000 طن قفص حجري، أطول من تمثال الحرية، ومصممة لتقف على الأقل 100 سنة، وهي أقلّ مدّة يمكن من خلالها تنظيف المنطقة. كما أن الانفصام الآخر عن الواقع في جميع الألعاب هو الانفصام عن قوانين الفيزياء. فالصواريخ التي تضرب واشنطن وبوسطن لا تؤثران وتبقى المدينة سليمة.
إنّ منح اللاعبين أسلحة نووية كبيرة لا نتائج سلبية لاستخدامها ليس سوى تحوّل كبير في سياسة سلاسل اللعب التي تستخدم الأسلحة النووية كموضوع لها. ورغم أنّ الأمر قد ينظر له من زاوية زيادة إثارة اللاعبين ودمجهم في اللعبة، فأين هو الحسّ الساخر الذي كان موجوداً في نسـخ اللعب السابقة؟ أين اختفت المسؤولية عن اتخاذ القرارات هنا؟
إنّ مزج التاريخ بالخيال العلمي وباتخاذ القرارات هو ما يجعل هذا النوع من الألعاب مثيرة. إنّ إعادة تغليف التكنولوجيا والأسلحة النووية وتقديمها وكأنّها لا مشاكل مرتبطة بها هو أمر هدفه إضعاف علاقة اللاعبين بالتاريخ والواقع، وهو يشكل ركيزة للنظر إلى المقاربات التي تتخذها هذه الألعاب. فالمرء يمكنه أن يكون ساخراً وفي الوقت ذاته منزعجاً من خطر الأسلحة النووية، كما في فيلم الشهود: الدكتور سترانغلوف: «كيف تعلمت أن أتوقف عن القلق وأن أحبّ القنبلة». والأهم من هذا كلّه: أنّ مثل هذا التقديم العقيم للأخطار يوصل رسائل مضللة للجمهور بخصوص الفناء المحتمل للبشر من جرّاء العبث بالأسلحة النووية.