العولمة النيوليبرالية: إعادة تشكيل الإنتاج العالمي
توماس بالي توماس بالي

العولمة النيوليبرالية: إعادة تشكيل الإنتاج العالمي

تنتشر فكرة وجود نوعين للعولمة في العصر الحديث: الأولى بدأت حوالي 1870 وانتهت عام 1914، والثانية بدأت في 1945 ولا تزال جارية. تتحدى هذه الدراسة هذه النظرة وتجادل بأنّ هنالك ثلاث عولمات وليست اثنتين فقط. العولمة الأولى: الفكتورية، والعولمة الثانية: في الحقبة الكينزية التي دفعتها المكاسب من التجارة وهذه المكاسب زادت الأجور الحقيقية في الدول الصناعية، والعولمة الثالثة: النيوليبرالية التي قادها إعادة التنظيم الصناعي بدافع من الصراع التوزيعي.

تعريب وإعداد: عروة درويش

لا تفسر نظرية التجارة العولمة الثالثة، وزيادة حصّة رأس المال على حساب العمالة. يقال غالباً: إنّ التاريخ يكتبه المنتصرون، وأنّ حجج وقضايا الخاسرين تُدمَّر وتُنسى في الوقت الذي يتم فيه التبرير والموافقة على حجج وقضايا المنتصرين. يمكن للشيء ذاته أن ينسـحب على الاقتصاد من الناحية النظرية، وعليه فإنّ الاقتصاد في الكتب الدراسية يعكس وجهة النظر المهيمنة والتي بدورها تميل لتعكس مجموعة المصالح المهيمنة.

تحدي تاريخ العولمة المنمّط
يجتمع تاريخ الاقتصاد مع النظرية الاقتصادية ليصوغا «تاريخاً على المقاس»، والذي يقدّم بدوره تمثيلاً مبسطاً للواقع المعقد، بحيث يصبح هو الحقيقة في نهاية المطاف. تمّ إنشاء التاريخ المنمط بعناية ليتوافق مع النظرية المهيمنة بحيث يسير جنباً إلى جنب مع كلّ ما يخدم المنتصرين. يخدم التاريخ المنمط وظيفتين مزدوجتين حيويتين، الأولى: هي إنشاء واقع مبسط يدعم النظرية المهيمنة. والثانية: هي منح درعٍ مضادٍ للنقد التجريبي والتفاصيل غير المستحبة.
تتبدى لنا أهمية التاريخ المنمط بشكل تام في حساب الاقتصاد السائد لتاريخ العولمة. يرى هذا الحساب بأنّ هنالك عولمتين في العصر الحديث، الأولى: بدأت عام 1870 وانتهت في 1914، والثانية: بدأت عام 1945 ولا تزال قائمة حتى اليوم. لقد استُخدم إطار العولمتين هذا لتهميش التفسيرات النظرية النقدية لحقبة العولمة الأخيرة.
إننا نقدم حساباً بديلاً عن وجود ثلاث عولمات في تاريخ الاقتصاد العالمي على مدى الـ 150 عاماً الماضية. يحوّل تفسير العولمات الثلاث تفسيرات التطورات التي حدثت في الأعوام الثلاثين الماضية بشكل جذري. فبدلاً من النظر إلى التطورات الأخيرة في ضوء التجارة العالمية، يتم النظر إليها عبر إعادة تشكيل تنظيم الإنتاج العالمي. لقد كان الهدف هو إعادة توزيع الدخل بأخذه من العمّال وإعطائه إلى رأس المال، وتمكين مجالات الأعمال من الفرار من القيود الاجتماعية والاقتصادية التي تمّ فرضها عليها بعد الكساد الكبير، وإخفاق الرأسمالية الفيكتورية.
بشكل تحليلي: السِّمة النقدية لفرضيّة العولمات الثلاث هي في نقد تذويب تعريف العولمة بالتجارة. فالعولمة المعاصرة متعلقة بإعادة تشكيل الإنتاج وليس بالتجارة. التجارة مشمولة بشكل حتمي لأنّ البضائع والخدمات يجب أن تعبر الحدود. لكنّ نمط النقل لا تفسره النظرية التجارية، وهي التي تنص على النفع المتبادل لطرفي التجارة. ولكن يمكن تفسيره عبر إعادة التنظيم الصناعي الذي يحفزه الصراع التوزيعي، والذي يهدف لزيادة الربحية وزيادة الحصّة من الأرباح.
لقد قدّم منطق التجارة الجديد رابحين وخاسرين. ويشمل الرابحين اقتصادات السوق الناشئة التي تلقت تدفقات استثمارات أجنبية مباشرة كبيرة هدفت لخلق منصات إنتاج تصديري. كما كان مالكو رأس المال في الدول المتقدمة من الرابحين أيضاً، لكنّ العمّال في البلدان المتقدمة كانوا من الخاسرين الكبار.

الفرضيّة السائدة المضللة
تمّ تحديد بداية ما يسمى بالعولمة الأولى منذ عام 1870. لقد استندت إلى إدخال التلغراف والتبريد والتحسينات الهامّة على النقل بالبواخر والسكك الحديدية. أدّت هذه التطورات مجتمعة إلى زيادة هائلة في التجارة بين أوروبا الغربية والاقتصاد العالمي. علاوة على ذلك كانت هنالك هجرة هائلة من أوروبا إلى أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية وجنوب إفريقيا وآسيا وأستراليا.
يتم الادعاء بأنّ العولمة الأولى قد جرت منذ العام 1870 إلى 1914، فانتهت مع نهاية الحرب العالمية الأولى. فكان هنالك ما بين 1870 و1913 ميلاً مطّرداً لزيادة التجارة العالمية (لقد وصلت ذروتها في الحقيقة عام 1912). ثم تهاوت التجارة بشكل شديد عام 1914، لكن تمّ عكس هذا الهبوط بشكل اصطناعي بسبب واردات الحلفاء من الغذاء ومواد الحرب في 1917 و1918.
وعليه فقد انهارت التجارة العالمية ومالت للأسفل خلال فترة ما بين الحربين. كان هنالك تعافٍ دوري في العشرينيات والثلاثينيات، لكنّ التجارة لم تتعافَ إلى مستويات ما قبل الحرب كحصّة من الناتج الإجمالي العالمي. وقد أدركت الحضيض في عام 1945 عندما شكّلت التجارة العالمية فقط 10,2% من الناتج الإجمالي العالمي.
ثمّ بدأت العولمة الثانية في 1945 والتي تشير إلى بداية التوسع الحالي في التجارة العالمية. وفيما يخص التفاصيل فقد كان هنالك تعافٍ حاد في التجارة في أواخر الأربعينيات، ممّا يعكس إعادة إنشاء الاقتصاد العالمي في أوقات السلم. وكان هنالك تفجّر حاد ثانٍ في التجارة بين عامي 1968 و1980، ممّا يعكس فقاعات أسعار السلع وصدمات أسعار نفط أوبك في الأعوام الاثني عشر التي رفعت قيمة التجارة نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي. وفي النهاية كان هنالك تفجّر ثالث في التجارة بعد عام 1991 والذي دام حتّى حدوث الأزمة المالية عام 2008. في عام 2009 انهارت التجارة. لكنّها ورغم انتعاشها منذ ذلك الحين فهي لم تنتعش إلى حدّ مستويات النمو السابقة.
استمرت العولمة الأولى من 1870 إلى 1914. تبعها عولمة عابرة امتدت ما بين نهاية الحرب العالمية الأولى وحتّى نهاية الحرب العالمية الثانية. بدأت العولمة الثانية عام 1946 واستمرّت. وضع عام 1972 علامة على نهاية حقبة بريتون وودز، لكنّ العولمة استمرت وتسارعت حتّى. أن فرضيّة العولمتين المألوفة ربطت العولمة كتعريف بتاريخ التجارة، ولهذا تصبح العولمة هي التجارة والتجارة هي العولمة.

فرضية العولمات الثلاث
تقدم لنا فرضية العولمات الثلاث نمط عولمة ثالثة يبدأ في التسعينيات ويستمر حتّى الوقت الحالي، ويشار إليها باسم «العولمة النيوليبرالية».
على المستوى الرمزي يضع عام 1990 علامة على إعادة اتحاد ألمانيا ما بعد الحرب والدخول الكامل لاقتصادات الكتلة السوفييتية السابقة في الاقتصاد العالمي. علاوة على ذلك فإنّ المفاوضات بحلول عام 1990 كانت تسير بشكل حسن على طريق الاتفاقات التجارية والاستثمارية الجديدة (مثال نافتا عام 1994 وإنشاء منظمة التجارة العالمية 1995 والتي تعرّف في الوقت الحالي بنية الاقتصاد العالمي). عكست هذه المفاوضات التطورات الاقتصادية التي كانت تجري، وقد قامت الاتفاقيات التي نجمت عن هذه المفاوضات بتسريع وتعميق هذه التطورات ولم تقم بخلقها.
وحيث نرى فرضية العولمتين عبر «حجم» التجارة فقط، فإنّ فرضية العولمات الثلاث تضيف قضية «تكوين» التجارة. في الفترة ما بين 1900 و2011 هيمنت التجارة الزراعية على العولمة الفيكتورية الأولى، حيث شكّلت المنتجات الزراعية 57% من التجارة عام 1900. كان الهيكل الرئيس للعولمة الفيكتورية هو الاقتصادات الصناعية لأوروبا الغربية التي تصدّر البضائع المصنعة إلى الاقتصادات الناشئة: كندا والولايات المتحدة والأرجنتين وأستراليا، والتي كانت بدورها تبادل تلك البضائع بمنتجاتها الزراعية.
شهدت عولمة الحقبة الكينزية التفافاً في تكوين التجارة. استمرّت تجارة العولمة الفيكتورية، لكن تمّ تكميلها بالإتجار في البضائع المصنّعة بين الاقتصادات الصناعية لأوروبا الغربية وأمريكا الشمالية واليابان. ونحو نهاية الفترة انضمت بعض الدول المتأخرة في التصنيع (ويشمل ذلك تايوان وكوريا الجنوبية وهونغ كونغ وسنغافورة). في 1955 مثّلت البضائع المصنعة 55% من التجارة العالمية مقاسة بوصفها حصّة من الناتج المحلي الإجمالي. بحلول عام 1990 ارتفعت حصّة البضائع المصنعة إلى 70%. شملت هذه التجارة الجديدة تبادلاً بين الدول الصناعية، بضائع مصنّعة مقابل بضائع مصنعة أخرى.

تحولات العولمة النيوليبرالية
بدأت العولمة الثالثة النيوليبرالية في 1990. والسمة الجديدة لهذه العولمة هي التحوّل الهائل في موقع النشاط التجاري والاقتصادي، والذي غيّر بدوره المكونات الجغرافية للتجارة. استمرت حصّة التجارة الصناعية في التأرجح عند نسبة 70%، كانت 70% في 1990 و65% في 2011. لكنّ الانخفاض الضئيل في عام 2011 يعكس على الأرجح الإزاحة المؤقتة الناجمة عن الأسعار الأعلى للنفط والسلع، وذلك كما حدث أيضاً في فترة 1980. أما حصّة التجارة البينيّة- الصناعية من التجارة الدولية بقيت ثابتة نسبياً. إنّ بيانات التصنيف الصناعي الإجمالي تظهر لنا تأرجحه في حدود 55% خلال فترة 1990-2006.
لقد حدث تحوّل جغرافي هائل في النشاطات الاقتصادية والتجارة خلال العولمة الثالثة النيوليبرالية. هنالك زيادة هائلة في تطوير ونقل حصّة الاقتصاد من الناتج الإجمالي العالمي، ومن الصادرات العالمية والواردات العالمية خلال فترة ما بين 1980 إلى 2015.
إنّ الدافع لهذه التحوّلات، هو: التحوّل في النشاط التصنيعي من الاقتصادات الصناعية إلى الاقتصادات النامية. إنّ للحقبة بين عامي 1980 و2006 سمات عديدة. أولاً: كان هنالك انخفاض شديد الانحدار في حصّة الاتحاد السوفييتي السابق من التصنيع. ثانياً: كان هنالك زيادة كبيرة في حصّة الصين وشرقي آسيا وشبه القارة الهندية من التصنيع. وتمثل هذه المجموعة الاقتصادات النامية، وقد ازدادت حصتها ما بين عامي 1953 و1980 من التصنيع بشكل هامشي، ثمّ انفجرت حصتها بعد عام 1980. ففي عضون خمسة وعشرين عاماً قصيرة، تمّت إعادة تشكيل التصنيع العالمي بشكل كبير. فإن استثنينا الاتحاد السوفييتي من البيانات، فإنّ الانخفاض النسبي لحصّة أمريكا الشمالية من التصنيع والزيادة في حصّة الصين- شرق آسيا سوف يبدو واضحاً بشكل أكبر حتّى.
إنّ تحوّل التصنيع إلى الاقتصادات النامية قد غيّر بدوره تكوين صادرات الدول النامية. ارتفعت حصّة الصادرات الصناعية من الدول النامية في الفترة ما بين 1965 و1980 من 15% إلى قرابة 27%. وارتفعت ما بين 1980 و1999 من قرابة 27% إلى قرابة 83%. يعكس هذا النمط التاريخي للتجارة حيث تتدفق البضائع المصنعة من الاقتصادات الصناعية إلى الاقتصادات الناشئة، ويميّز بشكل جوهري بين العولمة الثالثة النيوليبرالية وبين العولمتين السابقتين عليها.

«اقتصاد البارجة»
إنّ المحفز الرئيس للعولمة الثالثة لم يكن التجارة، ولو أنّها جزء حتمي منها، بل هو هدف المنظمات الصناعية إلى زيادة حصتها من الأرباح.
يمكن وصف العولمة النيوليبرالية بأنّها «اقتصاد البارجة Barge economics». والسبب الذي يدفع لتسميتها هكذا هي ملاحظة جاك ويلش، الرئيس التنفيذي السابق لشركة جنرال إليكتريك، بأنّه بالإمكان بشكل نموذجي «وضع كلّ مصنع تملكه على بارجة». تخيّل ويلش المصانع التي تطفو على زوارق بين البلدان من أجل استغلال أقلّ التكاليف الممكنة، سواء أتمّ تحقيق ذلك بسبب الفرق في أسعار الصرف أو بسبب الضرائب المخفضة أو الدعم أو غياب التشريعات أو العمالة زهيدة الثمن الممكن استغلالها.
تجعل العولمة النيوليبرالية من «اقتصاد البارجة» حقيقة. فقد تمّ بناء «البارجة» على تغيير تكنولوجي وتنظيمي معقد، بالاعتماد على بنية سياسية وقانونية تدعم الإنتاج الخارجي والاستعانة بمصادر أجنبية. بقيت التجارة ذات موقع رئيس لأنّ البضائع يجب أن تعبر الحدود، وبالتالي كان هنالك حاجة لاتفاقيات تجارية.
لكنّ «اقتصاد البارجة» مختلف جوهرياً عن اقتصاد التجارة التقليدي. فالأخير يتمحور حول تبادل البضائع والخدمات عبر الحدود، المتعلق بالإنتاج الثابت في مكانه. أمّا «اقتصاد البارجة» فيتمحور حول خلق شبكة إنتاج دولية متحركة مرنة، تتشكل على مبدأ المراجحة الدولية للتكاليف « Arbitrageشراء بضائع في سوق وبيعها في أخرى لتحقيق هامش ربح أعلى».
يمكن إيجاد جذور «اقتصاد البارجة» داخل اقتصاد التنظيم الصناعي وتطوّر الشركات متعددة الجنسيات، أو إذا ما تحدثنا بشكل أكثر عموماً: «الشركة المتناثرة» وقصّة تطوّر الشركة المتناثرة هي قصّة تاريخية طويلة للسرد.
تألفت شركة التصنيع الفيكتورية الكلاسيكية من مصنع في الطابق الأرضي ومن قسم إدارة ومحاسبة يطلّان على طابق المصنع. ومع نمو حجم الشركات بنمو حجم اقتصاداتها الوطنية، فقد توسعت عملياتها الأساسية بشكل تدريجي وتناثرت داخل حدود الاقتصاد الوطني. وتمثّل الشركة متعددة الجنسيات عملية التناثر هذه إلى الفضاء الدولي، وقد تسارعت هذه العملية في العقدين التاليين للحرب العالمية الثانية. لكنّ السمة الرئيسة لشركات ما بعد الحرب العالمية الثانية، هي: أنّ إنتاجها كان بشكل رئيس لصالح الأسواق المحلية: فشركة فورد الأوروبية وجنرال موتورز الأوروبية كانتا كلتاهما تنتجان لصالح الأسواق الأوروبية وليس لصالح سوق الولايات المتحدة.
غيّرت العولمة النيوليبرالية هذا النمط بحيث كانت شركات الإنتاج الفرعية الأجنبية (وخاصة الشركات الأمريكية) تستهدف بشكل متزايد التصدير العكسي نحو بلاد شركاتها الأم. يحمل اقتصاد البارجة منتجي البلاد على تقليص إنتاجهم المحلي، وعلى تحويل منشآت الإنتاج إلى الخارج، ومن ثمّ استيراد البضائع المنتجة في الخارج.
بالنتيجة، فإنّ «اقتصادات البارجة» تعني عدم وجود مكاسب كليّة من التجارة وأنّ المجتمع يكون أسوأ حالاً بسببها. فالأرباح تزداد بحيث تزداد مكاسب رأس المال ولكنّ العمالة تخسر، لكنّ خسارات العمّال تفوق بكثير مكاسب رأس المال.

آثار «اقتصاد البارجة»
قد تكون الآثار الديناميكية لـ«اقتصادات البارجة» أسوأ ممّا ذكرنا من قبل حتّى. التصنيع هو القطّاع المحدد الذي يتم نقله للخارج. إن كان التصنيع هو مصدر ديناميكية وفورات الإنتاج (مثال نمو إنتاجية أعلى)، فعندها قد يخسر بلد الشركة الأم أكثر حتّى. فإن كان التصنيع هو الدافع الرئيس للاستثمار فإنّ قطّاع تصنيع أصغر سينتج تراكماً رأسمالياً أقل ونمواً أقل.
تفسر «اقتصادات البارجة» «لغز» تدفق رأس المال نحو الشمال. التفسير بسيط: إنّ العجز التجاري الأمريكي هو توأم الفوائض التجارية في الصين وشرقي آسيا. تخلق اقتصادات البارجة هذا النمط من العجز والفائض عبر إعادة موقعة إنتاج الشركات في الأسواق الناشئة، وعليه فإنّ لدى هذه البلدان الآن منصات الإنتاج التصديري الذي يورد إلى البلدان الأم للشركات متعددة الجنسيات.
يدور كامل «اقتصاد البارجة» حول آثار زيادة قدرة الشركات على تحويل الإنتاج بين البلدان بسهولة وبتكاليف أقل. وهدف هذا التحويل هو إعادة توزيع الدخل. ويمكن للآثار المصاحبة لذلك أن تتضمن عدم الفاعلية في الإنتاج، وعوامل خارجية سلبية، وتقلص الطلب العالمي.

إنّ لـ«اقتصاد البارجة» آثاراً اقتصادية سياسية، فكما رأينا فيما سبق فإنّه لمن الحتمي أن ينتج اقتصاد البارجة عجزاً تجارياً. ينبع هذا من منطق إعادة تنظيم الإنتاج الهادف إلى تأمين إعادة توزيع الدخل، بدلاً من إعادة تنظيم متوازن للإنتاج العالمي كما هو الحال في نظرية التجارة التقليدية. ينتقل الإنتاج إلى البلدان النامية بحيث يزيد الصادرات، لكن ليس هنالك ترتيب إنتاج تعويضي يضمن زيادة عادلة لصافي صادرات الدول المتقدمة. طالما أنّ الاقتصاديين يعيشون حالة إنكار لهذا الأمر فلن نرى إلّا تبريرات مهلهلة للعجز التجاري المستمر، تلقي باللائمة إمّا على العجز المفرط في الموازنة أو في عدم كفاية المدخرات الخاصة. ويتم التذرّع بمثل هذه التفسيرات لتبرير سياسات التقشف التي تهدف إلى الحد من العجز في الموازنة، أو لتبرير السياسات الرامية إلى زيادة الادخار الذي يزيد بدوره اللامساواة في الدخل. ولهذا فإنّ الفهم الخاطئ لآثار «اقتصاد البارجة» المتعلق بالعجز التجاري يمكنه أن يرتب آثاراً مدمرة على السياسات عموماً وعلى الاقتصاد، وهو بدوره ما يؤثر على توزيع الدخل.