«الإعلام الحر» يكذب... فمن يملك يحكم
بقلم: جوناثان كوك تعريب وإعداد: عروة درويش بقلم: جوناثان كوك تعريب وإعداد: عروة درويش

«الإعلام الحر» يكذب... فمن يملك يحكم

كيف لنا أن نعرف إن كانت التقارير التي أمامنا واقعية وصادقة وجديرة بالثقة، أم أنّها مجرّد حيل والتفافات علاقات عامة؟ كيف بإمكاننا الوثوق بأيّ شيء نقرأه أو نشاهده؟ يشمئز معظمنا على الفور من الضبابية القائمة بين التحرير الإعلامي وبين الإعلانات في وسائل الإعلام. لكن لديّ فكرة مشاغبة هنا: هل سيكون هذا الاشمئزاز الذي نشعر به أمراً سيئاً؟

قد يكون من الأفضل لنا أن نحذر أكثر من الإعلام المملوك للشركات، وأن نبدأ بالتفكير بهذا الإعلام بشكل رئيس بوصفه منصّة لبيعنا إيديولوجيات تؤذي رفاهنا الفردي، وكذلك رفاه مجتمعاتنا. لكن قبل أن نكمل في هذا الخطّ من الأفكار، دعونا نمضي أولاً للخروج بخلاصة.
كتب جيمس كوزيك مقالاً هاماً في موقع «Open Democracy» حول توقيع اتفاق بقيمة ثلاثة ملايين جنيه إسترليني بين صحيفة «الستاندرد Evening Standarad» وبين ستّ من أكبر الشركات العالمية، من بينها: «غوغل» و«أوبر». ويتمحور الاتفاق حول السماح لهذه الشركات بشراء تحليلات وتغطيات إخباريّة ملائمة لها. ويقدّم هذا المشروع الذي يحمل اسم «لندن 2020» لهذه الشركات الفرصة للتأثير بشكل خفي على قرّاء الصحيفة، البالغ عددهم حوالي مليون شخص في لندن.
المصفقون للشركات
لقد خرج بفكرة هذا المشروع «الخلاق»، جورج أوزبورن، محرر الصحيفة. ربّما لا يكون من المستغرب بعد ذلك أن يطلقوا العنان لأوزبورن كي يمهّد الطريق أمام الصحيفة لتصبح مهللاً علنياً للشركات الكبرى.
شغل أوزبورن ما بين عامي 2012 و2016 منصب مستشار الخزانة (وهو ما يعني وزير المالية البريطاني) لصالح حكومات المحافظين التي تشرف على تنفيذ سياسات تقشفٍ اقتصادي صارمة، وهي السياسة التي تمّ تصميمها لاستنزاف أموال عامّة البريطانيين وسلبها منهم لاستخدامها في إعادة إحياء قطّاع المصارف الخاصة والشركات الكبرى.
وبالإضافة إلى ذلك، كانت لأوزبورن يدٌ عميقة في عدّة نهشات مربحة جداً للشركات. ففي تناقضٍ صارخٍ للمصالح منذ أن أصبح رئيس تحرير صحيفة «ستاندرد» العام الماضي، وبشكل سابق على عرضه بيع تغطية إخبارية ملائمة للشركات الستّ الكبرى، وقّع عقداً بقيمة 650 ألف جنيه إسترليني للعمل يوماً واحداً في الأسبوع لصالح «بلاك روك»: أكبر شركة إدارة استثمارات في العالم.
وتملك شركة «بلاك روك» في هذه الأثناء أسهماً بقيمة 500 مليون جنيه إسترليني في شركة تطبيق «أوبر» لسيارات الأجرة، وهي إحدى الشركات التي عقدت صفقة الأخبار الملائمة مع أوزبورن. تحتاج «أوبر» يائسة لتلميع وجهها في الوقت الذي تخوض فيه الكثير من الصراعات في المحكمة، وذلك من أجل إبقاء رخصتها صالحة للعمل في لندن.
ما يكون جيداً للشركات الكبرى يكون جيداً لحساب أوزبورن المصرفي، ولهذا يبدو واضحاً سبب تفضيله لزملائه في مصرف المدينة ومنحهم الأولوية على التزامه بالصحافة الحقيقية.
«انتحار علاقات عامة»
رغم كلّ ما قلناه في الأعلى، فسنكون ساذجين إن صدقنا بأنّ هذا الأمر هو معركة بين اقتصاد أوزبورن العدائي الذي لا يرحم من جهة، وبين الأخلاقيات الصحفية من جهة أخرى.
أولاً: علينا أن نتذكر بأنّ جميع وسائل الإعلام المملوكة للشركات قد شوهت الخطّ الفاصل بين التحرير الإعلامي والإعلانات على مدى العقدين أو الثلاثة عقود الماضية. كانوا يدعون الأمر فيما مضى «المحتوى الممول إعلانياً Sponsored content» وكذلك «التحرير الدعائي Advertorials». وقد تمّ تحوير المصطلح مؤخراً إلى «الإعلان المحلي»: وهو التعبير الملطّف عن بيع المنافذ الإعلامية لنفسها كالعاهرة لصالح الشركات الكبرى. ولا يعدو ذنب أوزبورن في هذا السياق أن يكون أكثر من قيامه ببساطة بالاندفاع أكثر والعمل على نطاقات أوسع من منافسيه.
ثانياً: أحد المدراء التنفيذيين الكبار في «ستاربكس»، وهي إحدى الشركات التي حاول أوزبورن التعاقد معها، قال: إنّ شركته رفضت الصفقة للأسباب التالية: «يعدّ شراء تغطية إخبارية انتحاراً على صعيد العلاقات العامة... إنّه أمر قد تقوم به في المملكة العربية السعودية لكن ليس هنا. لم يكن الأمر صـحيحاً بالنسبة لنا».
وكما يقودنا التصريح الذي أدلى به المدير التنفيذي الكبير، فـ«ستاربكس» لا تكره موضوع التلاعب بإدراك العامة بشأن نشاطاتها لمواجهة صورتهم السيئة التي تشكلت نتيجة قيامهم مع بقية الشركات في المملكة والمتحدة وحول العالم بإفساد الأنظمة، بحيث بالكاد يدفعون أيّة ضريبة. ولكنّها خشيت من أن تعطي خطّة أوزبورن نتيجة عكسية. فمن المحتمل بأنّهم شككوا بأنّ هذه الصفقة غير النزيهة سوف ينتهي بها المطاف بأن تكشف أمام العامّة كما حصل، وبالتالي ستؤدي إلى تلويث صورتهم أكثر بدلاً من تحسينها. أو إذا ما أردنا أن نوصّف ما حصل باستخدام مصطلحاتهم، فقد خشوا من المخاطرة «بانتحار علاقات عامة».
وكما على الشخص المنطقي أن يتوقع، فإنّ الاعتبار الوحيد الذي تأخذه الشركات عندما تحاول التأثير على الرأي العام أثناء سعيها المستمر للفوز في معركة تعظيم أرباحها للحد الأقصى، هو إن كانت هذه الجهود سوف تكون نافعة من الناحية المالية. إنّها المنفعة القصوى وليس المصداقية أو الأخلاق أو الصالح العام. إنّ شاغلها الرئيس، هو: إن كان العمل الذي سيقومون به سيحمل الجمهور على النظر إليهم بشكل أفضل ممّا سيزيد من أرباحهم إلى أقصى حد، ودون اعتبار إن كانت التكلفة ستتضمن الإضرار بالمجتمع أو بالكوكب.
صفقة خفيّة
في واقع الأمر، من المنطقي أكثر أن نرى بأنّ سعي المنافذ الإعلامية من جهة، والشركات من جهة أخرى، للوصول إلى صفقات دائمة وجمعيّة وخفيّة، هو أمر أكبر وأبعد من مجرّد صفقة واحدة مع صحيفة «ستاندرد»، التي حازت الانتباه فقط لأنّها انكشفت أمام العامة، وذلك أثناء السعي لتعزيز بيئة الأعمال بينهما، بما يسمح للشركات بتعظيم أرباحها إلى أقصى حدّ ممكن. وهذه هي الحال التي لدينا هنا بشكل دقيق:
«لا يكمن الأمر فقط بأنّ الإعلام يعتمد على الإعلانات، رغم أنّ هذا الأمر يساعد الشركات بكل تأكيد على الحصول على مرادهم. فما الذي يمكن أن يحصل لو أنّ كلّ صحيفة أو محطة تلفزيونية غير حكومية قد هاجمت الشركات التي تعتمد عليها في كسب كتلة المداخيل التي تحصل عليها؟ إنّ مهاجمتها للشركات سيكون مساوياً لقيامها بإطلاق النار على أصابع أقدامها».
لكن يبقى الأمر الأكثر أهمية هنا، هو: أنّ وسائل الإعلام نفسها هي شركات، ولا فرق بينها وبين غوغل وأوبر وستاربكس.
ألمح جون أودونيل المدير التجاري لمجموعة «ESI Media» التي تنشر صحيفة «ستاندرد» وكذلك «الإنديبيندت» لهذا الأمر في تصريح له نشر في موقع «Open Democracy». فقد قال: بأنّ «ESI» لم تعد ببساطة تقدّم خدمات إعلانية بل تحولت لتصبح «عملاً تجارياً إعلامياً»، وأضاف بأنّ «التفريق الصارم بين ما يدعى الكنيسة والدولة (التحرير الإعلامي والإعلانات) كان يؤدي لإلحاق ضرر أكبر من الفائدة».
إنّ الشيء الوحيد الذي فعله أوزبورن وأودونيل هو الإعلان عن أمرٍ كان حتّى ذلك الوقت محلاً للتكتم والإخفاء بشكل كبير.
الإيديولوجية المشتركة
إذاً، لا تعتمد وسائل الإعلام على الإعلانات من الشركات وحسب، بل هي بحدّ ذاتها شركات، وشركات كبرى أيضاً. ففي يومنا هذا تملك ستّ شركات إعلامية 90% من كامل الوسائل الإعلامية المتاحة في الولايات المتحدة. تدمر مثل هذه الحقائق كلّ تلك الادعاءات عن التعددية والاختيار الإعلامي، لكنّ له منافع جمّة أيضاً.
فهو يضمن بأنّ جميع هذه الشركات الإعلامية الهائلة تتشارك بنفس الافتراضات الإيديولوجية مع الشركات الكبرى، ذلك أنّ دوافعها جميعها هي الاعتبارات ذاتها. الاعتبار الأول: تعظيم أرباحها مهما كان الثمن الخارجي، ويتضمن ذلك العالم الواقعي الذي نعيشه. والاعتبار الثاني: تعظيم الأرباح في الوقت ذاته الذي يتم فيه تقليل الضرر الواقع على سمعتها العامّة المصاغة بمهارة بكونها شركات أخلاقية أو مراعية تسعى لتحقيق الصالح العام.
يعني هذا: أنّ النشاط الجوهري للشركات الإعلامية، هو: أن تؤدي دور ذراع العلاقات العامة للإيديولوجية المشحونة بالنيوليبرالية، فتقوم بشرعنة النهب والسلب الذي ترتكبه جميع الشركات، ومن ضمنها: الشركات الإعلامية، أثناء سعيها لتحقيق «نموّ اقتصادي» لا نهاية له.
إنّ الفروق الاصطناعية بين مختلف المنافذ الإعلامية موجودة فقط من أجل إقناعنا، بوصفنا قرّاء ومشاهدين، بأسطورة رائجة أخرى: بأننا نملك الخيار وبأننا نسيطر على الإعلام، وبأنّ هنالك نوعاً ما من الجدال الصحي يأخذ مكانه الملائم في مجتمعاتنا، ويتمّ التعبير عنه من خلال «التعددية» الإعلامية المفترضة.
لكن في الواقع ينحصر خيارنا بين جناحين من العلاقات العامة التي تعتمدها الشركات، الأول: يدافع بثقة عن رأسمالية الشركات، ويعرض بشكل غير اعتذاري أنشطة تدمر مجتمعاتنا وكوكبنا. والثاني: ملتزم على ما يبدو بإجراء تعديلات طفيفة على رأسمالية الشركات لإبطاء التدمير المستمر الذي تقوم به، لكن دون أيّة محاولة لوقفها أو عكس مفاعيلها.
الاستهلاكية بوصفها «ترياقاً»
تقوم الشركات الإعلامية بالضغط عبر الإعلانات ووسائل التحرير الإعلامية بلا هوادة لنشر الفكرة الانتحارية الأسطورية: «النمو الاقتصادي اللانهائي»، وكذلك للتشديد على أنّ الاستهلاكية هي الترياق لجميع المشاكل التي أوصلتنا إليها الاستهلاكية ذاتها في مجتمعاتنا.
وفيما يخص أكثر القضايا التي نواجهها جوهرية، فليس هنالك أي تقسيم وفصل بين الجانبين الإعلاميين: التحرير والإعلان.
هل تشعر بأنّك معزول ومحبط؟ إذاً فلتشترِ المزيد من الهواتف الذكية، واقضِ المزيد من الوقت عليها، رغم أنّها هي التي تعزلك بالفعل عن العلاقات ذات المعنى، وهي التي تمطرك بشكل يومي بوابل من الرسائل التي تخبرك عن الطرق التي ستكون فيها شخصاً أسعد إن قمت بتطوير نفسك، أو على الأقل إن قمت بإلهاء نفسك عبر حيازة المزيد من الأشياء.
هل تريد إنقاذ الكوكب؟ إذاً فلتدهن مرهماً مسكِّناً على ضميرك بقيامك برمي سيارتك القديمة التي تلوث الجو وشراء سيارة هجينة صديقة للبيئة أكثر. ثمّ بعد فترة قريبة سيكون عليك استبدالها بسيارة أخرى تكون كهربائية. ثم بعد وقت قصير سيكون عليك رمي تلك السيارة الكهربائية العتيقة والسعي لشراء آلية تسير على الهيدروجين، أو ربما تسير باستخدام غبار الجنيات كوقود. وفي هذه الأثناء وأنت تسعى لتبني نمط حياة أكثر خضرة وتماثلاً مع البيئة، ربّما يمكنك شراء دراجة هوائية عالية التقنية مع الإكسسوار.
«لقد باتت الشركات مسؤولة جداً في الوقت الحالي عن مجتمعاتنا بحيث إنّ أحزابنا السياسية- سواء أكانت تتبنى من حيث الشكل اسم أحزاب يسارية أو يمينية- باتت تمثّل مصالح هذه الشركات وحسب. ولهذا فليس من المستغرب بأنّ حملة صحيفة ستاندرد المسماة «لندن 2020»، والتي تهدف لتعزيز موقف هذه الشركات، التي تدمر الكوكب وإظهارها بوصفها حليفة لنا، قد تزامنت بلا مشاكل مع انتخابات عمدة لندن».
ما هي الوسيلة الأفضل من استخدام الشركات الإعلامية من أجل إقناعنا بأنّ شركات أخرى مهووسة بالربح هي شركات تسعى لتحسين الحياة في لندن؟ إنّ نجاح هذه الحملات سوف يمنح هذه الشركات الجشعة المزيد من القوة والتأثير على انتخابات العمادة والرئاسة والبرلمان وغيرها من الانتخابات حول العالم.
إعلام الأموال لا إعلامنا
إنّ حالة صحيفة «ستاندرد» التي حدثت في لندن ليست حالة منفصلة وغير ذات سياق، بل تحدث في جميع المدن، بدءاً من نيويورك ولوس أنجلس، ووصولاً إلى باريس وفرانكفورت، ويتم تكرارها بلا نهاية على المستويات الوطنية. سوف نبقى دون حول أو قوة بالتحكم بحيواتنا طالما أنّ الشركات تملك السطوة لتتحكم بمدننا ودولنا... وبإعلامنا. لقد حان الوقت كي نجعل أمثال أوزبورن وصحيفته يختفون. لقد حان الوقت لنرمي وراءنا صحيفة «ستاندرد» وبقيّة الشركات الإعلامية، وأن ننشئ نموذج إعلام تعدديٍّ يمثلنا حقّاً، عوضاً عن تمثيل أصحاب المليارات على حسابنا.

 

 

آخر تعديل على الأحد, 24 حزيران/يونيو 2018 21:27