أوباما «اللامبالي» وترامب «العدائي».. أصوات أوروبية تفكر بمصير «الاتحاد»

أوباما «اللامبالي» وترامب «العدائي».. أصوات أوروبية تفكر بمصير «الاتحاد»

لم تعد حالة الإنكار للمتغيرات العاصفة، التي يشهدها العالم هي السائدة في الخطاب الأوروبي «الأكاديمي» الرسمي، إلا أن انتقالاً يجري لدى «نخب الأورومركزية» نحو تبني سياسة الاستناد إلى الحقائق التي تؤكد أنّ حالةً من التفكك يشهدها الاتحاد الأوروبي «اتحاد النخب الأوروبية»، والسير بهذه الحقائق نحو تفريغها من محتواها، والترويج لـ«انعدام البدائل» و«المستقبل المبهم».

 

فيما يلي، نستعرض مادتين نشرتا مؤخراً، في عدد من الصحف والدوريات الأوروبية، تعكسان الآلية التي يجري فيها تصوير الأزمة الأوروبية. المادة الأولى: لوزيرة الخارجية الإسبانية السابقة، والنائبة السابقة لرئيس البنك الدولي، والتي تحولت منذ فترة إلى مدافعة شرسة عن «الاتحاد الأوروبي»، آنا بالاسيو. والثانية: لفوبيني فيديريكو، الباحث الإيطالي في الشؤون المالية، وصاحب كتاب «نحن الثورة»، والتي ركز فيها على انعكاس الأزمة الأوروبية على الوضع الألماني خصوصاً.

الاتحاد.. «وحيدٌ في عالم قاس»

في مقالها المنشور على موقع «politico.eu»، أشارت بالاسيو إلى أنه في حزيران الماضي، أصبح الخطر الذي يهدد الاتحاد الأوروبي واضحاً بشكل صارخ، عندما صوتت المملكة المتحدة لصالح الخروج من الاتحاد. ثم جاء انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة ليجعل الأمور أشد سوءاً، فالآن، تسلك الولايات المتحدة، أقرب وأقوى حلفاء أوروبا ــ الشريك الأمني المهم وحامل القيم المشتركة ــ تسلك اتجاهاً مختلفاً تمام الاختلاف، وتهدد بترك أوروبا المهتزة المنقسمة وحدها في عالمٍ قاسٍ حريصٍ على تمزيقها إرباً.

ربما يبدو هذا إغراقاً في التضخيم والمبالغة. فلا يزال كثيرون في الدوائر السياسية الأميركية مقتنعين- على الأقل في العلن- بأن السياسة الخارجية الأميركية في عهد ترامب، سوف تكون محكومةً من قبل شخصيات من الوزن الثقيل الأكثر رزانةً واعتدالاً في حكومته، من أمثال وزير الدفاع، جيمس ماتيس، ووزير الخارجية، ريكس تيلرسون. فيقولون لنا: «لا تنزعجوا، فلن يحدث الأسوأ».

ولكن من واقع تجربتي الشخصية، أستطيع أن أجزم بأن الشخص الوحيد المهم حقاً، هو من يستطيع أن يستولي على أُذُن الرئيس. وحتى الآن، تشير الدلائل كلها إلى أن دائرة ترامب الداخلية هي التي تتولى قيادة عملية صنع السياسات. ما كنت لألقي المواعظ بشأن بنية جهاز السياسة الخارجية في دولة أخرى في الظروف العادية. ولكن رئاسة ترامب للولايات المتحدة ليست عاديةً، ولهذا فنحن جميعاً نتحمل مسؤولية النظر في العواقب التي قد يخلفها التحول الإيديولوجي الجاري في البيت الأبيض، بعيداً عن الفكر الديمقراطي الغربي التقليدي على بلادنا. 

وهي مسؤولية ملحة، بشكل خاص بالنسبة للأوروبيين، لأن الإيديولوجية الدافعة الجديدة في الولايات المتحدة، تؤكد على دولة ويستفاليا القومية التقليدية، مع إصرارها على السيادة، والحدود القوية، والقومية. وفي نظر هذه الإيديولوجية، يُعدّ الاتحاد الأوروبي- الذي بُني على فكرة القوة والسلام والازدهار من خلال التعاون- لعنةً بغيضةً.

اللازمة: 

«احذروا الخطر الروسي والصيني»..!

لم تعد المشكلة بالنسبة للاتحاد الأوروبي الآن عدم المبالاة، الذي ميز أسوأ العناصر في النهج الذي تعامل به الرئيس باراك أوباما مع أوروبا. بل هي العداء الأميركي الصريح الآن. وما يؤكد هذا العداء امتداح ترامب للخروج البريطاني، الذي أكد على «حق المواطنين البريطانيين في تقرير مصيرهم»، فضلاً عن إشارته المهينة للاتحاد الأوروبي بوصفه «اتحاد شركات»، عندما ظهر مع رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي.

الآن، أصبحت أوروبا عالقة بين الولايات المتحدة وروسيا العازمة على تقسيمها. فماذا نحن الأوروبيون فاعلون؟ يتلخص أحد الخيارات في استرضاء ترامب. وهو النهج الذي سلكته تيريزا ماي في زيارتها إلى واشنطن العاصمة، عندما وقفت صامتةً في حين أعلن ترامب صراحة تأييده لاستخدام التعذيب في المؤتمر الصحافي المشترك.

ولكن هذا الاسترضاء، لابد أن يفضي إلى نتائج هدامة من منظور الاتحاد الأوروبي. إنّ قِيمنا، وليست حدودنا، هي التي تحدد هويتنا. ومن غير المنطقي أن نهجر هذه القيم، وخاصةً إذا كان الهدف الفوز برضاء قائد أظهر نفسه كشخص متقلب المزاج، وليس جديراً بالثقة على الإطلاق.

ويتمثل خيار آخر، في البحث عن مُخلّص جديد- ربما في هيئة دولة مثل الصين، التي هي ليست النظير الأقرب إلى الولايات المتحدة من حيث الأثر الاقتصادي فحسب، بل هي أيضاً دولة اجتذبت قدراً كبيراً من الاهتمام، في الآونة الأخيرة. ولكن ينبغي لنا أن نتوخى الحذر من الأنبياء الزائفين.

أما الخيار الثالث، والوحيد القابل للتطبيق بالنسبة للاتحاد الأوروبي، فهو الاعتماد على الذات. فلن يتسنى للاتحاد الأوروبي أن يتعامل بشكل فعال مع تذبذب إخلاص الولايات المتحدة لحلفائها، والقيم التي تجمعها بهم، إلّا من خلال تعزيز مواقفه الدولية- أو زيادة نفوذه بلغة اليوم.

تعني ملاحقة هذا الخيار ضمناً، أن الاتحاد الأوروبي لابد أن يدفع في سبيل تحقيق التقدم في المحادثات التجارية مع اليابان، والتفاوض على اتفاق استثماري مع الصين، وتحديث الاتفاقية العالمية بين الاتحاد الأوروبي والمكسيك، وحمل لواء الريادة العالمية، في مجال الإصلاح الضريبي. وعلاوةً على ذلك، ينبغي لأوروبا أن تتولى قدراً أعظم من مسؤولية الدفاع عن نفسها، سواء عن طريق زيادة الإنفاق أو ملاحقة التعاون القاري الذي يهدف إلى استخدام الموارد والقدرات بشكل أكثر كفاءةً.

ولكي تتمكن أوروبا من التصدي لتحدي الهجرة، ينبغي لها أن تعمل على صياغة سياسة تسترشد بقيمها، فضلاً عن مصالحها الأمنية والاقتصادية. وهذا يعني التمييز بين المهاجرين الاقتصاديين واللاجئين، وتعزيز الرقابة على الحدود، وتعزيز التعاون مع بلدان ثالثة.

الانتخابات المقبلة: كابوس آخر

وخلصت بالاسيو إلى القول: تعد الدعوة التي أطلقها مؤخراً الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، «للالتزام الواضح المشترك» بالاتحاد الأوروبي، بدايةً طيبةً. بيد أن مثل هذه الدعوات لابد أن تكون مدعومةً بالعمل الدؤوب. وقد يكون هذا أمراً صعباً في الأشهر التسعة المقبلة، التي ستشهد انتخاباتٍ وطنيةً في كل من هولندا وفرنسا وألمانيا. وربما تتفاقم صعوبة الأمر إذا حقق مرشح متطرف في واحدة أو أكثر من هذه الدول فوزاً مفاجئاً. ولكن إذا صمد الوسط السياسي في أوروبا، فسوف يكون الاتحاد الأوروبي في موقف قوي يسمح له بمواجهة القوى الخارجية المتزايدة العداء والمضي قدماً في تحقيق أغراضه بكل عزيمة وإصرار.

ألمانيا ليست في أفضل حال

بدوره، يرفض فيديريكو في مقاله المنشور على موقع «GlobalEye.online» القول بأن ألمانيا لا تشوبها شائبة في أوروبا: قد تكون إيطاليا هي «الرجل المريض في أوروبا» اليوم، لكنها ليست البلد الوحيد الذي يحتاج إلى العلاج. على العكس من ذلك، يبدو أن ألمانيا القوية تعاني أيضاً من مرض ما.

من المؤكد أن إيطاليا في حالة يرثى لها. على مدى العقدين الماضيين، بلغ متوسط نمو الناتج المحلي الإجمالي السنوي نسبة 0.46٪، وارتفع الدين الحكومي بشكل مطّرد، والذي وصل إلى أكثر من 130٪ من الناتج المحلي الإجمالي اليوم. كما يظل معدل البطالة مرتفعاً باستمرار، والاستثمار في انخفاض، ويعاني القطاع المصرفي من متاعب جمة.

وبالمثل، انخفض عدد النساء في سن الإنجاب بما يقرب من مليونين منذ سقوط جدار برلين في عام 1989. ولا تزال حصة العاملين النشطين الحاصلين على شهادات جامعية في مستويات بالكاد متشابهة مع الاقتصادات المتقدمة الأخرى.

وبالنظر إلى هذا كله، لا يجب الاستغراب أن إيطاليا واليونان، اللتين تعانيان من أزمة، هما أيضاً الأضعف أداءً في منطقة اليورو من حيث نمو نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي على مدى السنوات الثلاث الماضية. ما يثير الدهشة هو: أن ألمانيا تشكل ثالث أضعف أداء. اٍن ألمانيا تعاني من الناحية المالية، مع تراكم كبير في المدخرات الفائضة. بل هي أيضاً ذات قدرة تنافسية عالية من حيث تكلفة وحدة العمل، وتتمتع بأعلى معدلات المشاركة في سوق العمل لها، وتستفيد من التدفق المستمر للعمالة الماهرة من أنحاء أخرى في أوروبا.

لكن الحقيقة، هي: أن متوسط النمو السنوي للفرد الواحد في ألمانيا من الناتج المحلي الإجمالي والذي يبلغ 0.51٪ منذ 2014 يبعدها عن دول منطقة اليورو الأساسية الأخرى- وهي النمسا وبلجيكا وفنلندا وهولندا. حتى فرنسا، حيث نمو نصيب الفرد بالكاد يتجاوز نمو إيطاليا، ويتفوق قليلاً على ألمانيا.

التحرك الهادئ نحو التفكك

هل يعقل أن اقتصادات مختلفةً مثل: ألمانيا وإيطاليا لديها أداء مماثل في نمو نصيب الفرد؟ إلى حد ما، التفسير قد يبدو واضحاً. ألمانيا هي الأقرب إلى النمو المحتمل من إيطاليا وحتى الولايات المتحدة، التي جهدت أكثر من ألمانيا هرباً من الكساد العظيم. لكن الانتعاش الأكثر حداثةً في البلدان المتقدمة الأخرى كان يجب أن يدعم النمو المحتمل في ألمانيا القائم على التصدير. وبالمثل، يمكن للهجرة أن تؤثر في نمو الناتج المحلي الإجمالي للفرد. إذ توفر الهجرة دفعةً كينزيةً واضحةً، لكنها لا تقلب المعادلات.

ومع ذلك، فإن تدفقات المهاجرين إلى ألمانيا ليست أمراً غريباً. لقد شهدت البلاد تدفقات صافيةً قويةً مماثلةً في أوقات أخرى خلال العقود الثلاثة الماضية، دون وجود مثل هذه الآثار السلبية على معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي للفرد. على العكس من ذلك، لقد قام المهاجرون إلى ألمانيا، وخاصة الشباب ذوي المهارات، بالمساهمة في الناتج المحتمل.

يجب البحث عن السبب الحقيقي وراء نمو الناتج المحلي الإجمالي وانخفاض نصيب الفرد في ألمانيا. وفقاً لبنك التسويات الدولية، فاٍن مطالبات البنوك الألمانية لدول أخرى في منطقة اليورو- بما في ذلك النمسا، فرنسا، إيرلندا، إيطاليا، هولندا، البرتغال، وإسبانيا- انخفضت بأكثر من 200 مليار دولار، في مجموعها، منذ ذروة أزمة الديون في منتصف عام 2012. كما انخفضت مطالبات إيطاليا إلى مستويات ما قبل اليورو، وتقترب مطالبات إسبانيا من هذا المعيار. وحتى ألمانيا أخذت في التراجع عن استثماراتها في اقتصادات منطقة اليورو الرئيسية.

إن تحرك البنوك الألمانية الهادئ نحو التفكك، يتناقض بحدة مع سلوك البنوك المتواجدة في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، وهولندا، والتي استأنفت التكامل المالي الأوروبي من خلال تثبيت وزيادة استثماراتها في بلدان أخرى. هذه الاتجاهات المتباينة، بدلاً من هروب رؤوس الأموال العامة، تبين جزءاً من تزايد الاختلالات في نظام الدفع لمنطقة اليورو.

لماذا تتراجع 

البنوك الألمانية عن التكامل؟

أحد الأسباب المحتملة هو: أن السلطات المالية المحلية التي تشك في مستقبل اليورو أمرت البنوك بخفض استثماراتها في بقية منطقة اليورو. والسبب الآخر يكمن في البنوك الألمانية التي تعاني من توعّك بطيء والذي يتعين على الهيئات التنظيمية الأوروبية إدراكه تماماً. إن قاعدة التكلفة لديها، بعد كل شيء، هي من أعلى المعدلات في العالم المتقدم، لكن ربحيتها تعد من بين أدنى المعدلات، على الرغم من عبء القروض المعدومة لديهم.

ومع ذلك، فإن هذا الخوف مُحيّر للغاية. إن ما يقرب من نصف النظام المصرفي الألماني مملوك للقطاع العام، وبالتالي، يتمتع بضمانة حكومية ضمنية. وفي الواقع، تلقت البنوك الألمانية 239 مليار يورو، ما يعادل (253 مليار دولار) كمساعدات من الدولة بين 2009 و2015.

وعلى أية حال، لا يمكن لانسحاب البنوك الألمانية من أوروبا أن يكون جيداً للثقة والاستثمار أو قطاع الخدمات الحيوية. وبالفعل، كان الاستثمار في ألمانيا العام الماضي أكثر من خمس نقاط مئوية أقل من مستويات عام 1999 كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، على الرغم من ارتفاع الادخار الوطني الإجمالي إلى أعلى مستوياته منذ بدء سلسلة بيانات صندوق النقد الدولي في عام 1980.

عادةً ما يفسر المسؤولون الألمان هذا الانخفاض الكبير من خلال الإشارة إلى حيطة المجتمع المسن. لكن على التحديات أن تلهم الإصلاحات في الاستحقاقات والتعليم، وليس قمع المطالب. وهنا تكمن القضية الحقيقية. ليس هناك دولة في الاتحاد الأوروبي، مع استثناء محتمل لفرنسا، نفذت عدداً قليلاً جداً من الإصلاحات على مدى العقد الماضي مثل ألمانيا.

وبدأ يظهر غياب الإصلاح، حيث لعبت البنوك الحذرة والاستثمارات المنخفضة دوراً منذ عام 2012 في الامتداد البطيء لنمو ألمانيا في إجمالي إنتاجية عوامل الإنتاج منذ ثلاثة عقود. إن الاعتماد إلى حد كبير على الصادرات- وهذا هو  طلب البلدان الأخرى- قد يشغل الحكومة الألمانية عن بعض مسؤولياتها الخاصة. لكنه من مصلحة أوروبا كلها وإيطاليا، على وجه الخصوص- أن يصبح أكبر اقتصاد في أوروبا أقوى مما هو عليه.

ومن المؤكد أن تباطؤ الإنتاجية لا يخصّ ألمانيا فقط. لكن ما لم تعالج ألمانيا جذور هذا التباطؤ في البلاد، فإنها قد تعاني من خسارة كبيرة- في حال إعادة تقييم عملتها بشكل حاد- في شكل انخفاض الصادرات والأضرار التي لحقت بالقطاع المصرفي الضعيف، الناجمة عن الانكماش وأسعار الفائدة السلبية الطويلة الأجل. إن مرض إيطاليا هو أكثر حدة بكثير من داء ألمانيا، لكن كلتيهما تعانيان من مرض خطير. وكلتيهما في حاجة إلى علاج فوري.

 

معلومات إضافية

العدد رقم:
798