الربيع العربي... ليس ثورة شباب فحسب

«القوة الدافعة والرافعة للحراك الشعبي العربي هم الفقراء والعاطلون عن العمل والمحرومون من التنظيم النقابي والحزبيون المحرومون من حرية العمل السياسي بحثاً عن العدالة الاقتصادية». 

وقود الحراك الشعبي

إن شباب «الفيسبوك» و«تويتر» و«الرسائل النصية» و«الإيميل» ممن ينتمون إلى قلة ما زالت قليلة من الشباب العرب الذين يتمتعون برفاهية الانفتاح على فضاء «التواصل الاجتماعي» وثورة الاتصالات في محيط شاسع من الأمية الالكترونية للأغلبية الساحقة من أمتهم وشعوبهم التي تجد قوت يومها بشق الأنفس، أو بالكاد تجده، ليسوا هم القوة الدافعة والرافعة للحراك الشعبي الذي لا يزال يهز أركان النظام العربي «المتعولم» و«المتأمرك» والمستكين لـ«السلام» مع دولة الاحتلال الإسرائيلي التي قطع زرعها في قلب الوطن العربي والعالم الإسلامي التطور الطبيعي لكل المجتمع المحيط بها، والتي دفعت حروبها التوسعية العدوانية في محيطها إلى منح الأولوية للدفاع على حساب التنمية، وللدكتاتورية وتغول الأمن وأجهزته وحالات الطوارئ على حساب الحريات العامة والفردية، بل هم الفقراء والعاطلون عن العمل والمحرومون من التنظيم النقابي والحزبيون المحرومون من حرية العمل السياسي بحثاً عن العدالة الاقتصادية والمناطق المهمشة المحرومة من المساواة في مشاريع التنمية المركزة في العواصم التي تحتكر القلة الثروة والسلطة فيها.

وفي مصر، قلب الحراك الشعبي العربي الراهن، كانت هذه الحقيقة واضحة تماماً، فنقاباتها ونقابيوها وعمالها والعاطلون عن العمل فيها كانوا هم القوة الحيوية وراء تنظيم احتجاجاتها وإضراباتها واعتصاماتها، لا بل إن حركة شباب السادس من أبريل (نيسان) التي دعت إلى الاحتجاج الأول الذي فجر ثورة الخامس والعشرين من يناير (كانون الثاني) كانت قد نشأت في الأصل للتضامن مع عمال النسيج في المحلة الكبرى.

وفي مصر لذلك ما زال هذا الحراك الشعبي بانتظار أن يتحول إلى ثورة، ليس في مصر وحدها بل في كل الوطن العربي بحكم موقع مصر ووزنها وتاريخها، لكنه لن يتحول إلى ثورة ما لم يحقق مطالب وطموحات القوى التي حركته وكانت وقوده، وهذا هو التحدي الأكبر، الذي يقرر النجاح أو الفشل فيه مصير «الربيع العربي».

ودلائل ما يجري في مصر حاليا لا تدعو للتفاؤل. فقد كان من أوائل الإجراءات التي اتخذها «المجلس الأعلى للقوات المسلحة» بعد «تنحي» الرئيس السابق حسني مبارك حظر إضرابات العمال والعاملين، بحجة منع المزيد من تدهور الوضع الاقتصادي، بدلا من تشديد الرقابة على من راكموا ثرواتهم من الاحتكار والفساد والمحسوبية ثم بدؤوا في تهريبها إلى الخارج، فالتقديرات المنشورة تتوقع أن يكون أزيد من ثلاثين مليار دولار أميركي قد تم تهريبها من مصر بعد الثورة.

لكن أخطر الأسباب التي لا تدعو للتفاؤل هي أن تكون الثورة «ثورة بلا رأس» كما قال د. العربي صديقي في عنوان دراسة له عن الثورة التونسية نشرها المركز العربي للدراسات وأبحاث السياسات، أو «ثورة بلا قيادة ... بانتظار أولئك القادة الذين سيحددون مستقبلها».. كما قال اللواء احتياط في دولة الاحتلال الإسرائيلي عاموس يادلين في محاضرة له آخر آذار/ مارس الماضي بمعهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى.

إسقاط الحكام وليس الأنظمة!

المفارقة التي تمخض عنها الحراك الشعبي العربي طوال الشهور الثمانية الماضية، ربما لهذا السبب أكثر من غيره، هي أنه أسقط حكاما لكنه لم يغير أنظمة ولا أنجز ثورة حتى الآن، إلا في ليبيا حيث سقط الحاكم ونظامه ويجري التخطيط لنظام جديد بالكامل يحل محل «اللا نظام» السابق، حتى ولو كان نظاماً على النمط المحمي أميركيا في دول نفطية عربية غير جمهورية.

والثورة في مصر هي أيضاً ثورة بلا برنامج سياسي – اقتصادي واضح، ومن الطبيعي عندما لا يكون للثورة رأس وتنظيم سياسي ألا يكون لها برنامج كذلك. وهذا الغياب خلق فراغاً سياسياً بعد 25 يناير/ كانون الثاني ملأه الجيش لمرحلة انتقالية، يعبر الكثيرون الآن عن الخشية من أن تطول، بينما تبحث «الثورة» في أوساط رجالات النظام الذي تنحى رئيسه، وكذلك خارج هذه الأوساط عن «محايدين» يقودون البلاد إلى انتخابات تفرز قيادات تضع برنامجاً سياسياً واقتصادياً لا توجد أي ضمانات بأن يكون هو البرنامج الذي يحقق مطالب قوى الثورة.

وفي هذا السياق لا يمكن إغفال الدور الحالي والمرتقب لجماعة الإخوان المسلمين والجماعات الإسلامية، فقد ظهروا بحكم الأمر الواقع كقيادة رئيسية وحيدة منظمة على نطاق وطني، ومن المتوقع أن يفوزوا بحصة كبيرة في أي انتخابات مقبلة. لكن غياب أي برنامج اقتصادي لهم يختلف جوهريا عن نظام الاقتصاد الرأسمالي الحر الذي قاد إلى كل المظالم والمفاسد التي كانت سبباً في تفجير الثورة في المقام الأول لا يبعث على الاطمئنان، بينما يزيد في عدم الاطمئنان أن التيار الرئيسي المنافس لهم هو التيار الليبرالي الذي يغني برنامجه الاقتصادي عن كل بيان، لتظل الساحة السياسية خالية عمليا من أية قوة فاعلة تدافع عن مصالح القوى الدافعة والرافعة لثورة 25 يناير/ كانون الثاني، باستثناء فلول من القوى اليسارية والقومية لم تعد تقدم أو تؤخر عملياً في التوجه المستقبلي لمصر في المدى المنظور. وإذا كانت الليبرالية الاقتصادية تقدم نماذج لفشلها في قواعدها الرئيسية الأميركية والأوروبية في الوقت الحاضر، لتسقط شعوب ودول ضحايا لفشلها (اليونان مثالاً)، فإن النماذج الاقتصادية «الاسلامية» الإيرانية والسودانية والخليجية لم تقدم حلولاً مقنعة حتى الآن لغياب العدالة الاقتصادية فيها، ناهيك عن نموذج «نمور الأناضول» إذا كان حكم حزب العدالة والتنمية يعتبر نموذجاً اقتصادياً «إسلامياً». 

البداية والنهاية.. والخبز

ولو افترض المراقب تفاؤلا بأن «الربيع المصري» قد حقق كل الديمقراطية والحريات العامة والشخصية المأمول فيها، فإن هذا الإنجاز سوف يظل ناقصاً وأجوف إن لم يقدم حلولاً لأزمات الخبز والفقر والعدالة الاقتصادية التي تطحن الأغلبية الساحقة من جماهير «الحراك الشعبي» العربي وبخاصة في مصر. ومن المؤكد أن مستقبل هذا الحراك سوف يعتمد إلى حد كبير جداً على مدى الاستجابة أو عدم الاستجابة لهذه الحقيقة الساطعة كالشمس، ومن دون حل واضح كالشمس أيضاً لهذه الأزمات «لا يعرف أحد حقاً إلى أين يتجه الربيع العربي، وإمكانية التنبؤ بمستقبل منطقتنا قد أصبحت أقل» كما كتب الأمير الأردني الحسن بن طلال في «دون» الباكستانية في التاسع عشر من آب/ أغسطس الماضي، مقتبساً من أليكس دى توكويفيل قوله إنه «في أية ثورة، كما في أية رواية، فإن الجزء الأصعب هو في اختراع النهاية». ومن الواضح أن من فجروا ثورة 25 يناير في مصر ليسوا هم من يكتبون النهاية لها اليوم.

غير أن الأهم في مقال الأمير الحسن هو أنه كاد يلامس التحليل الماركسي لمشكلة الفقر، فهو يعارض تعريف الليبرالية الاقتصادية المتعارف عليه لـ«خط الفقر» اعتماداً على دخل يومي يتراوح بين دولار وبين دولارين أميركيين، ويدعو إلى إعادة تعريفه «ليأخذ في الحسبان ... انعدام العدالة البنيوي»، ويفسر ذلك: «أي عدم المساواة في الوصول إلى الفرص، والمشاركة، وعمل المؤسسات. وينبغي أن يكون الوصول إلى الفرص على أساس الإصلاح السياسي والاجتماعي في المنطقة، والناس ليسوا مستعدين لذلك فحسب، بل إنهم يصرخون من أجله». لكن الأمير لم يضف أن «انعدام العدالة البنيوي» في النظام الاقتصادي الراهن الذي ينتج الفقر يقتضي «تغيير النظام» الاقتصادي، وهذا هو الحل الوحيد الذي يمكنه أن يحول الحراك الشعبي إلى ثورة في مصر.

لقد ارتفعت أسعار المواد الغذائية في مصر بمعدل (80%) تقريباً، وزاد التضخم في أسعار هذه المواد على (20%) عام 2010، أي عشية الثورة، وخلال العام ذاته ارتفعت أسعار الذرة بما يزيد على (91%) ومصر هي رابع أكبر مستورد للذرة في العالم، مما كان له تأثير مدمر وفوري على الأسر المصرية والفلاحين منهم بخاصة التي تنفق في المتوسط أكثر من (40%) على تغذية نفسها، وكان دافعاً ومحركاً للمشاركة الشعبية الواسعة في الثورة التي كانت تريد الخبز أولا ثم الحرية. وليس غريبا أن المواد الغذائية كانت دائما قضية سياسية سريعة الاشتعال في بلد يعيش خمس سكانه على أقل من دولار أميركي واحد في اليوم، مما اضطر حكومات النظام السابق إلى توفير الخبز بسعر مدعوم مالياً إلى (14.5) مليون مصري.

وكان الحراك الشعبي العربي أول رد فعل على أزمة «خبز» عالمية يتوقع الخبراء تفاقمها، وكان رئيس البنك الدولي، روبرت زوليك، قد حذر من أن نظام الغذاء العالمي يقف على «بعد صدمة واحدة من انفجار أزمة شاملة» في العالم. ويتوقع الخبراء، حسب المؤشرات الحالية، أن يرتفع سعر الخبز إلى أكثر من (90%) خلال العشرين عاما المقبلة. ولم يكن مفاجئاً لهؤلاء الخبراء أن تنفجر الأزمة أولاً في مصر، أكبر مستورد للقمح في العالم تليها الجزائر والمغرب. وتونس التي كانت الصاعق الذي فجر هذا الحراك تعتمد إلى حد كبير على (3.5) مليون طن من القمح تستوردها سنويا، وحصة الفرد التونسي من هذه الواردات ثلاثة أضعاف حصة الفرد المصري منها. (المعلومات السابقة واردة في كتاب منشور حديثا لمؤلفه كريستيان بارنتي عن «مدار الفوضى: تغير المناخ والجغرافيا الجديدة للعنف»).

ومن يسترجع بدايات الصاعق التونسي لهذا الحراك سوف يتذكر بأن خفض أسعار الخبز والسكر والحليب كان أحد الإجراءات الأخيرة التي اتخذها الرئيس السابق المخلوع زين العابدين بن علي وأن ارتفاع أسعار المواد الغذائية مقروناً بارتفاع معدل البطالة والفجوة المتسعة بين الأغنياء وبين الفقراء وانعدام التوازن في مشاريع التنمية بين المناطق كانت هي العوامل التي فجرت الصاعق التونسي للحراك الشعبي العربي وليس قلة من الشباب الذين تمتعوا برفاهية النوافذ الالكترونية للتواصل الاجتماعي عبر «فيسبوك» و«تويتر» وغيرهما. فهذا الحراك كان وما زال ثورة الغالبية العظمى المسحوقة اقتصاديا وليس ثورة الشباب فحسب. 

نظام التضليل الممنهج

إن هذا الحراك في بلد مكتف بذاته غذائياً مثل سورية التي تملك احتياطياً استراتيجياً من الحبوب يكفيها لمدة عامين، وهي بلد من بين (12) بلداً في العالم فقط فيها بنك للبذور الزراعية هو مؤشر كاف إلى التعتيم الإعلامي الذي يكاد يتحول إلى تضليل إعلامي مكشوف على حقيقة أن الخبز والعدالة الاقتصادية هما في صلب الحراك الشعبي العربي الراهن. ولم تكن قضية الخبز هي الوحيدة التي يجري التعتيم عليها.

فقد لاحظ الفرنسي المتخصص في الشؤون الإسلامية، أوليفير روي، أنه في «الربيع العربي ... لم تعد توجد أي قضايا مقدسة»، مثل المطالبة باقامة حكم «إسلامي»، أو «قومي عربي»، «ولم يرد التأييد لشعب فلسطين»، لأن «المطلب الفردي» هو السائد، ولأن «الشباب المحتج يريد حرياته الفردية»، حد أنهم «ليسوا مهتمين بتكوين أي حزب سياسي» و«هذه مشكلة» في رأيه.  لكن هذا المتخصص الفرنسي كما يبدو لم يكن قد سمع بعد عن الموقف الحاسم الذي اتخذه ثوار تونس ضد «التطبيع» مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وكتب ما كتبه قبل أن يسمع عن هروب طاقم سفارة هذه الدولة في العاصمة المصرية يوم الجمعة الماضي تحت ضغط الرفض الشعبي لوجودها.

 

* كاتب عربي من فلسطين