ماريا غارسيا وغونزالو مارين ترجمة قاسيون عن مجلة ريفيستا بويبلوس ماريا غارسيا وغونزالو مارين ترجمة قاسيون عن مجلة ريفيستا بويبلوس

تجارة المياه.. فقراء العالم مهددون بالموت عطشاً!

في حين أصبحت خصخصة الخدمات العامة راهنةً في فرنسا وغيرها، من المفيد العودة إلى حصيلة الخبرات في هذا المجال. كتب المقال المنشور أدناه عضوان في منظمة إسبانية غير حكومية تدعى إنخنريا سين فرونتيراس (هندسة بلا حدود)، وهو يعالج أحد قطاعات الخدمات العامة، أي الماء، ويأتي بذلك ليرفد مختلف المقالات التي نشرتها هيئة ديال Dial (نشر المعلومات عن أمريكا اللاتينية) حول الرهان الذي يمثله الماء، والجهود ـ المكللة بالنجاح أحياناً، كما في أوروغواي، التي تبذلها منظمات المجتمع المدني لجعله من الخيرات العامة غير القابلة للتصرف فيها. ظهر هذا النص في تموز 2006 في العدد 22 من مجلة بويبلوس، الذي خصص للشركات عابرة القومية.

من العسل إلى البهارات

منذ نهاية الثمانينات، لا تني حصة الاستثمارات الخاصة في الخدمات العامة تتزايد، ولاسيما في قطاع الماء. وقد أدى هذا التزايد في بلدان الجنوب إلى العديد من النزاعات، وأطلق، منذ نهاية التسعينات، انقلاباً في الميل. وبالفعل، غادرت الشركات الإسبانية العاملة في قطاع المياه تدريجياً أمريكا اللاتينية، سوقها التقليدي.

إنّ ميل مستثمرين خواص في قطاع المياه إلى المشاركة، هذا الميل الذي بدأ في نهاية الثمانينات، هو بصورة خاصة نتاج قبولٍ ذهني للمبادئ الأساسية التي وردت في مؤتمر دوبلن الدولي حول المياه والبيئة (1992)، وبصورة خاصة المبدأ الذي ينص على أنّ «الماء المستخدم لغايات عديدة، يتمتع بقيمة اقتصادية، وينبغي بالتالي الاعتراف به بوصفه من الخيرات الاقتصادية». هكذا بدأ مسار خصخصة قطاع المياه في أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا.

طالبت عدة هيئات ومنظمات غير حكومية معارضة لهذا المبدأ بالاعتراف بالحصول على المياه كحقٍ شامل، وهو موقفٌ عززته في كانون الثاني 2003 الملاحظة العامة رقم 15 التي أصدرها المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة، وأكدت أنّ «الماء مصدر طبيعي محدود وهو من الخيرات العامة؛ وهو ضروري للحياة والصحة، ولابد من حق الحصول على الماء من أجل حياة لائقة، وهو شرطٌ مسبق لتحقق حقوق أخرى للإنسان». بعبارات أخرى، لا يمكن اعتبار الماء سلعة، والحصول عليه حق. 

الشمال يتزود بالماء من الجنوب

في بلدان الجنوب، أصبح تدخل القطاع الخاص في خدمات المياه أمراً نزاعياً بصورة خاصة في كل مرة تتغلب فيها المصالح التجارية على تطبيق سياسات يفترض فيها حل إشكالية البلدان النامية، على الرغم من أنّ النواقص أكثر بروزاً في تلك البلدان: أكثر من 1.1 مليار نسمة ليس لديهم منفذ إلى مصادر مياه الشرب النقية، وأكثر من 2.6 مليار نسمة لا تتوافر لديهم وسائل مناسبة لتنقيتها. 

فضلاً عن ذلك، ركّز القطاع الخاص نشاطه في بلدان متوسطة الدخل، وقصر نشاطه على المناطق الحضرية. لم يأخذ هذا القطاع بعين الاعتبار الوضع الكارثي لخدمات المياه في المناطق الريفية، ولاسيما في البلدان الأقل نمواً وذات الدخل الضعيف. هكذا فضّلت الشركات الخاصة المشاركة في المشاريع «الكبيرة»، تلك التي تتجاوز ميزانيتها 100 مليون دولار، في المدن التي يتجاوز عدد سكانها مليون نسمة، ويكون الدخل فيها متوسطاً أو مرتفعاً.

على الرغم من ذلك، بقيت مشاركة الشركات الخاصة في هذا القطاع تحتل قلب النقاشات الدولية الهادفة لتمويل التنمية. فقد ذُكر التمويل الخاص للمياه صراحةً أثناء المنتديات العالمية للمياه، وضمنياً في قمة الألفية التي عقدتها الأمم المتحدة في العام 2000 وقمة جوهانسبورغ العالمية حول التنمية المستدامة التي انعقدت في العام 2002. في الحالتين، كان أحد الالتزامات التي جرى التعهد بها للألفية إنقاص نسبة الأشخاص غير القادرين على الوصول إلى منفذٍ لمياه الشرب النقية وأنظمة التنقية المناسبة بمقدار النصف ببلوغ العام 2015.

كان منتدى المياه العالمي الثالث، الذي انعقد في كيوتو في العام 2003، مناسبةً لاقتراح أن يقوم القطاع الخاص بلعب دور مميز في إنجاز أهداف الألفية التنموية من جانب، ومن جانب آخر النظر في فرصة حماية الشركات متعددة القومية بإجراءات تهدف إلى إنقاص مخاطر الاستثمار في البلدان النامية. هذه الاحترازات نتيجة مباشرة للتجربة الدولية لشركات قطاع المياه. وبالفعل، إذا كان قد جرى بدايةً اعتبار المخاطر قليلة، فقد أظهرت الوقائع أنّ الأمر ليس كذلك أبداً، وأنّ الأرباح المتحققة لا تتوافق مع الأرباح المرجوة.

هكذا لاحظنا، ولاسيما اعتباراً من 1996-1997، تناقصاً تدريجياً للتواجد الخاص في قطاع المياه، بحيث أصبح القطاع العام هو الذي يمول القسم الأعظم من خدمات المياه في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل. هذا الوضع بارز بصورة خاصة في وثائق مثل تقرير العام 2004 الصادر عن لجنة التنمية في البرلمان الأوروبي حول «تواتر نشاطات إقراض الاتحاد الأوروبي في البلدان النامية (INI/2004/2213)»، الذي أزيح فيه أي تدخل خاص لإنجاز أهداف الألفية التنموية. يبدو واضحاً أنّ هذا الوضع بعيد عن التصريحات والتوقعات التي أثارها مؤتمر كيوتو، إذ ينبغي وفقاً لذلك أن يحصل ما لا يقل عن 270 ألف نسمة يومياً على مياه الشرب النقية بين العامين 2006 و2015. والحال أنّ القطاع الخاص لم يتمكن من توفير هذا الأمر إلا لتسعمئة نسمة يومياً في السنوات التسع الماضية. 

استثمارات عمالقة المياه

الشركات متعددة القومية المستقرة في بلدان منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية OCDE هي العناصر الفاعلة الرئيسية في خصخصة الخدمات العامة منذ العام 1990. قبل ذلك، كانت الخصخصة شبه معدومة في قطاع المياه. ثمّ تضاعفت هذه الخصخصة لتصل إلى ذروتها في العام 1997، وبدأت بعد ذلك تتناقص مع الأزمتين الاقتصاديتين الآسيوية والأمريكية اللاتينية.

اعتباراً من العام 2000، اضطرت الشركات عابرة القومية لمواجهة معارضة متزايدة تتعلق بنشاطاتها، فحاولت إبطال وعدم تنفيذ العديد من العقود وتعرضت لخسائر فادحة. واليوم، تحاول هذه الشركات إعادة تركيز نشاطاتها في الصين والاتحاد الأوروبي والبلدان القريبة، في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وقلّصت في الوقت نفسه تواجدها في البلدان النامية وذات الدخل المنخفض والمتوسط بهدف الحدّ من خسائرها. في الوقائع، تستند السياسة العامة لشركات المياه عابرة القومية حالياً إلى إنقاص مديونيتها، ولهذه الغاية، تبيع عقودها غير الرابحة وتقلّص الكلف وتحدّ الاستثمارات الجديدة الفائضة عن الميزانية، وتنقص بقوة استثماراتها في البلدان النامية.

قطاع المياه الخاص هو بين أيدي حفنة من الشركات ـ سويس، فيوليا، ثيمز ووتر وسور ـ التي تستولي على 80 % من النشاطات. تحوز شركتا سويس وفيوليا وحدهما على ثلثي السوق. نلاحظ أيضاً أنّ بعض الشركات العامة في قطاع المياه تعمل خارج حدودها. هذه هي الحال خصوصاً بالنسبة لشركة فيتنز (هولندا) وراند ووتر (جنوب إفريقيا) وNSWC (أوغندا) وكانال دي إيزابيل II (إسبانيا) وآكواس دي بيلباو (إسبانيا) وEVN (النمسا).

كانت أمريكا اللاتينية قد عرفت أكبر عدد من الخصخصات، وذلك لعدة أسباب. ففي القارة بدايةً عدد كبير من المدن ذات عدد السكان الكافي والتي تتمثل فيها الطبقات الوسطى تمثيلاً جيداً، ما يجذب المستثمرين. ثانياً، عديدةٌ هي الشركات العامة ذات المديونية المرتفعة والدخول المنخفضة، ما يجعل البديل الخاص مبرراً لدى المستهلكين. أخيراً، جرى تطبيق السياسات النيوليبرالية تطبيقاً واسعاً في هذه المنطقة، وذلك بسبب إجراءات التكييف الهيكلي والقروض المشروطة التي قدمها البنك الدولي وبنك التنمية للأمريكيتين (BID).

في أمريكا اللاتينية، تسيطر على قطاع المياه الخاص شركة سويس، تليها شركة فيوليا، لكنه يتضمن أيضاً عدداً كبيراً نسبياً من الشركات الدولية. جرت الخصخصات وفق موجتين كبيرتين، بدأت أولاهما في العام 1993 في بوينوس آيرس، وبدأت الثانية في العام 1999.

الشركات الإسبانية المتواجدة في أمريكا اللاتينية هي التالية: آغواس دي بارشلونة أغبار (تشيلي وكولومبيا والأرجنتين وكوبا والمكسيك والأورغواي والبرازيل)، دراغادوس (الأرجنتين)، آغواس دي بيلباو (الأرجنتين والأورغواي)، كانال دي إيزابيل II وتيكفاسا (كولومبيا والإكوادور وجمهورية الدومينيك) وأبنغوا (بوليفيا) وإنديسا وإيبردرولا (تشيلي). 

الانسحاب التدريجي من أمريكا اللاتينية

ليس مفاجئاً أن تكون شركة أغبار أكثر الشركات الإسبانية نشاطاً في أمريكا اللاتينية باعتبار أنّ شركة سويس، الشركة الرئيسية عابرة القومية في هذا القطاع، تملك 48.6 % من أسهمها مع بنك لاكايكسا الكاتلاني. لكنّ تواجد شركة أغبار أدى إلى نزاعاتٍ هامة في الأرجنتين وكولومبيا والأورغواي، مما أدى إلى تخليها اليوم عن معظم مستوطناتها في هذه البلدان ولم تبق على عقود إلا في قرطبة، الأرجنتين، وفي قرطاجنة، كولومبيا.

في العام 1993، دوى الامتياز الذي حصلت عليه في بوينوس آيرس شركة آغواس أرجنتيناس، التي تمتلكها شركة سويس بنسبة 39.93 % وشركة أغبار بنسبة 25.03 % دوياً كبيراً. فلم تكن الشركة قد أوفت إطلاقاً بالمعايير المحددة بصدد توسيع الشبكة ومعالجة المياه المالحة. ومع ذلك، زادت زيادةً كبيرة أسعارها التي فرضتها أثناء المفاوضات. تقدّر الزيادة بين العامين 1993 و2001 بنسبة 88.2 %.

في قرطاجنة، نشر الكثير أيضاً عن عدم احترام بنود العقد التي تتضمن توسيعاً للشبكة لتصل إلى أكثر أحياء المدينة فقراً. في نهاية العام 2005، أعادت شركة أغبار النظر في استراتيجيتها الشاملة في أمريكا اللاتينية واختارت تقليص تواجدها فيها لتركز بصورة رئيسية على تشيلي، حيث تقدّر بأنّ استثماراتها هناك أقل خطراً وبأنّ الأرباح المتوقعة أكبر. فضلاً عن ذلك، بدأت الشركة في تنويع نشاطاتها.

تدخلت شركتان حكوميتان في خصخصة خدمات المياه، هما شركتا أغواس دي بيلباو وكانال دي إيزابيل II (مدريد). كانت الأولى متواجدةً في الأرجنتين منذ العام 1999، في آذار 2006، جرى إلغاء امتياز هذه الشركة. كما كانت شركة أغواس دي بيلباو متواجدة في الأورغواي، لكنّ العقد أبطل أيضاً قبل انتهائه.

تعمل شركة كانال دي إيزابيل في أمريكا اللاتينية عبر شركة كانال إكستنسيا، التي تمتلكها بالشراكة مع شركة تكفاسا دي فالنسيا (إسبانيا). كانت شركة كانال إكستنسيا تمتلك معظم أسهم مجموعة شركات تريبل A، وهي منظمة فعالة في كولومبيا، حيث حصلت من شركة أغبار على امتيازات تمتلكها هذه الأخيرة في بارانكيلا وسانتا مارتا وسوليداد وبويرتو كولومبيا. تطورت تريبل A في أمريكا اللاتينية بين العامين 2000 و2005، ومنذ ذلك الحين، تبدو استراتيجيتها التطويرية أقل وضوحاً.

أما في تشيلي، فقد ساهمت شركتان من قطاع الكهرباء في خصخصة قطاع المياه، إذ كانت شركة إنديسا تمتلك حصصاً في شركة إسفال (شركة خدمات الصرف الصحي في فالبارايسو) لكنها باعتها لشركة أنغليان ووتر في العام 2000. من جانبها، تمتلك شركة إيبردرولا حصصاً في إيسال (شركة الصرف الصحي في لوس لاغوس)، لكنها تفاوض حالياً على بيعها إلى شركة تيمس ووتر أو شركة أنغليان ووتر. أياً يكن الأمر، يبدو بوضوح أنّ شركة الكهرباء الإسبانية تحاول التخلي عن نشاطها في قطاع المياه.

أخيراً، تمتلك شركة ACS (دراغادوس) عقداً لبناء واستثمار وتسيير المياه في ميسيونس (الأرجنتين) منذ العام 1999 عبر شركة آغواس دي ميسيونس.

عملياً، لقد بدأت معظم الشركات عملية انسحابها من القارة.