وائل منذر وائل منذر

تغييرات طارئة في سوق العمل أو مجرد تكيف ؟!

في الحرب تتغير التعاريف والمسميات، وتهرم اللغة والتوصيفات، ثمة موتٌ معلن لا رادّ له، من يتكيّف قد ينجو لأيام وربما شهور وسنوات، فمن أسعفه الحظ واستبدل تعباً بآخر ووجعاً بآخر قد يشبع لمدة أطول. في الحرب يتغير كل شيء وصاحب العمل قد يصير عاملاً، أو بلا عمل، والعاطل عن العمل قد يصير رجل أعمالٍ وأزمة فاقع الثراء.

في الحرب أي عملٍ مهما كان شائناً هو عملٌ، ويكتسب قيمته العليا من كمية المورد المادي وليس من نوع العمل، ولا من جهد العامل وتميُّزه، إنها الحرب، تحدث تغييرات بنيوية وانقلابات عميقة على حياة الناس، لا تبقي ولا تذر، تعمّم فرضية أن البقاء للأقوى، ويغدو التكيُّف مع الظروف الجديدة مجرّد وهم أو حيلةٍ للبقاء وأيّ بقاء؟
هنا سورية، ونحن مازلنا هنا، يقول أبو سعيد الذي كان يملك أحد مخازن الخشب الكبيرة في ريف دمشق، خرج من بلدته إلى مدينة السويداء بعد أن أصبح حطباً لهذه الحرب الكارثية، حيث خسر المخزن والخشب وغلّة عمره وسني شقائه، واضطر لأن يعمل في أحد المقاهي الشعبية كونه يجيد إعداد وتعمير الآراكيل، فمهنة تصنيع وبيع الخشب تحتاج لمبالغ طائلة لتعويضها.
في حي المنطقة الصناعية في قرية رساس المزدحم بسكانه الجدد المهجرين من مناطق أصبحت خارج دائرة الحياة يُرتّب أبو أحمد مستحضرات التجميل والأمشاط والعطور وملاقط الشعر وعدة الحلاقة وإزالة الشعر بعناية بالغة. يحمل بيده اليمنى نفاضة غبارٍ من الريش الأسود ليحافظ على لمعان بضاعته، يتذكر محله السابق الذي التهمته الحرب، عيناه تراقبان السيدات خوفاً من السرقة أو من تجريّب سيدة ما قلم حمرة شفاه وإعادته بعد أن تركت شفاهها علامة بارزة عليه فتعطل بذلك عملية بيعه.
أبو أحمد: باع حلي زوجته وحتى خاتم الزواج واشترى شاحنة صغيرة من نوع السوزوكي وجعل لها باباً حديدياً وجدراناً مغلقة كونه لم يعد قادراً على استئجار محل بعد أن أصبح بدل الإيجار الشهري يتراوح ما بين 100 - 200 ألف ليرة سورية حسب الموقع والمنطقة مع دفعة لمدة ستة أشهر سِلف أبو أحمد يعمل طيلة النهار مردّداً عبارة «الحمد لله مستورة» لكنه يئنّ من وجع قدميه ومن غلاء أجار بيته ومن تكاليف المعيشة الصعبة.
أما إقبال: فقد وزعت أيام الأسبوع ما بين ربات بيوتٍ يرغبن بتحضير الكبّة أو لف ورق العنب وغيرها من الوجبات المتعبة. أجرها حسب كيلو البرغل أو الرز وقد تعمل في أكثر من بيت في ذات اليوم كي لا تخسر زبائنها علّها تستطيع دفع بدل الإيجار وإعاشة وإطعام أولادها بعد موت زوجها.
إقبال: كانت تملك ورشة خياطة فساتين للسهرة وشك الفساتين بالخرز والسيلان ولكن مهنة كهذه تحتاج لماكيناتٍ ضخمة ودقيقة وباهظة الثمن ولتوافر مكانٍ واسع وعاملاتٍ متميزاتٍ وخبيراتٍ تتفاوت أجورهن حسب الخبرة.
أبو أيمن: ميكانيكي يعمل في ورشة متنقلة لصيانة السياراتٌ المعطلةٌ على الأرصفة، في الأزقة الفرعية، أو في ساحاتٍ باتت مواقف للسيارات المعطلة وورشاتٍ متنقلةٍ للصيانة بعدما تبخرت محال التصليح ومعداتها إثر تضررها أو احتراقها بفعل الحرب.
يقول أبو سامر: «أنا مستعد أن أعمل في تعزيل المجارير لتأمين ربطة الخبز لأبنائي».
أبو سامر: رقمٌ إضافيٌ في قائمة الواقفين في طوابير عمال الفاعل المياومين في إحدى ساحات مدينة السويداء، تآخوا مع حجارة الرصيف الذي يجلسون عليه بانتظار الفرج. تتبدل قيمهم وأخلاقهم يتخاطفون أي زبون عمل، يقبلون بأي نوع من الأعمال، يكسرون سعر الخدمة المتفق على تسعيرها يتشاجرون ويتشاتمون يسخرون من بعض وتخيّل أن تتشاجر مع عامل فقير مثلك من أجل ليرات ولقمة العيش المجبولة بالدم.
نساء يقمن بشطف الأدراج في الأبنية العالية، يأخذن كل شيء قابل للتدوير زوج جوارب خبز يابس خضار زائدة وذابلة طبخة على وشك التلف، وشبابٌ يعملون في أكشاك، وبسطات غير مرخصة يبيعون الممنوعات ومواد الإغاثة من بطانيات ومعلبات وحبوب.
أطفال تركوا مقاعد الدراسة لتوصيل طلبات البقاليات إلى البيوت، أو للعمل عتالين على عربات معدنية محنيي الظهور وباعة للمسروقات أو التعفيش يتاجرون بكل شيء، المعطّل منها والفعّال.
مُولات في الأزمات الكبرى تبدو التغيرات الطارئة على سوق العمل معياراً حقيقياً ذا مغزى، وتترافق مع مؤشراتٍ تُحوّل هذه التغيرات من مجرد حالات طارئة كمية إلى نوعية إلى تاريخ للعمل والعمال والإنتاج والسوق وميزان توزيع الثروة، وبالتالي تؤرخ أحوال المجتمع وحيويته الفعلية المعطّل منها والفعّال. الفعلية، المعطّل منها والفعّال.
مُولات ضخمة ومطاعم بديكورات حديثة وملاهٍ عامرة بالنساء العاملات وأثرياء جدد بلا عمل وبلا شهادة علمية أو خبرة وبلا اسم، لهم لقب واحد واسم واحد: حيتان الزمن الصعب، الزمن الضائع، «تجار الحرب» وأصحاب الخطوات.

معلومات إضافية

العدد رقم:
919