حائك زمن العزلة وسحر العيش
خليل صويلح خليل صويلح

حائك زمن العزلة وسحر العيش

القوس الذي فتحه ميغيل سرفانتس في تحفته العابرة للأزمنة «دون كيخوته» في القرن السابع عشر، في صناعة التخييل الجامح، أغلقه غابرييل غارسيا ماركيز (1928- 2014 في «مئة عام من العزلة في القرن العشرين. انطفأ الروائي العظيم جسداً، بينما ستبقى روحه تحلّق في جغرافيات العالم كواحدة من الأيقونات الخالدة في الأدب.

لا نظن أن روائياً عربياً معاصراً، لم تصبه لعنة ماركيز، ذلك أن الواقعية السحرية التي دشّنها هذا الروائي الفذّ، مع حفنة روائيين من أمريكا اللاتينية، بدت في نسختها العربية، كأنها دمغة محليّة، إذ أتاحت بسهولة استثمار العجائبي الذي كان مهملاً في البيئات المحلية، فاستيقظت الأرواح النائمة على عطر لغوي جديد بخلائط سردية لا تحتاج إقناع الآخر بأن ما هو متخيّل، ليس إلا جزءاً يسيراً من ألغاز الواقع. في المقابل، لم يتمكّن المقلدون من هضم ثمار المانغا الكاريبية وتحويلها إلى مشمش محلّي، فذهبت نصوص هؤلاء مع ريح الموضة، وبقي النص الأصلي في الواجهة.

كان صاحب «ليس لدى الكولونيل من يكاتبه» ظاهرة ثقافية وشعبية في آنٍ واحد، إذ بيعت من روايته «مئة عام من العزلة» خمسون مليون نسخة، عبر 25 لغة في العالم، قبل أن تتوّج بجائزة نوبل للأدب(1982)، كما أصبحت مدينته المتخيّلة «ماكوندو» مدينة عالمية بوصفها مخزناً للأعاجيب، وبدلاً من أن تعيش عزلتها، أحياها ماركيز ببراعة ومهارة ودهشة، نابشاً أساطيرها وأعاجيبها وغرائبية شخصياتها، لتتجوّل معنا كجزء من ذاكرة حيّة. كان ماركيز يقول: «إن الشيء الوحيد الذي يفوق الحديث في الأدب هو صناعة الأدب الجيد»، وهو ما فعله بامتياز، من عملٍ إلى آخر، وإذا كانت «مئة عام من العزلة» تتصدّر الواجهة، فإن «الحب في زمن الكوليرا» لا تقل مكانةً في سحرها، وسوف تطول القائمة، إذ لا يعقل أن ننسى «الجنرال في متاهته»، أو «خريف البطريرك»، أو «قصة موت معلن»، إلى بقية كنوزه الروائية. في الخطبة التي ألقاها في استوكهولم بمناسبة حصوله على نوبل للأدب، لخّص رؤيته للكون بقوله «إن الوقت لم يفت بعد للانطلاق في إبداع اليوتوبيا المعاكسة. يوتوبيا حياة جديدة وساحقة، حيث لا يمكن لأحد أن يقرّر عن الآخرين حتى طريقة موتهم».

لا تكمن أهمية ماركيز في شاعرية عبارته فحسب، بل في المرايا المتعددة التي تضيء جحيم العيش من جهة، والبهجة التي تنتظر على الناصية الأخرى للأمل، في سرديات تجذبك إلى سجادته البلاغية التي تحلّق على الدوام خارج نطاق الجاذبية الأرضية.

سنفتقد حائك الزمن المنسي والضائع والمهمل، فقد كان وسيبقى إحدى علامات القرن العشرين ومطلع الألفية الثالثة... قبل رحيله بسنوات كتب ماركيز هذه النبوءة: «الفكرة الأولى خطرت لي فـي بداية السبعينيات، بمناسبة حلم مضيء حلمت به بعد خمس سنوات من العيش فـي برشلونة. حلمت أنني أحضر مأتمي بالذات، وأنني أقف على قدمي، وأمشي بين جماعة من الأصدقاء يرتدون ملابس الحداد الوقورة، ولكن بحماسة احتفالية، وجميعنا كنا نبدو سعداء باجتماعنا معاً، وكنت سعيداً أكثر من الجميع بتلك الفرصة السارة التي منحني إياها الموت للقاء أصدقائي من أمريكا اللاتينية.. أقدم الأصدقاء وأحبهم إلى نفسي، ممن لم أرهم منذ زمن طويل، وبعد انتهاء المراسم، حين بدؤوا بالانصراف، حاولت مرافقتهم، لكن واحداً منهم جعلني أرى بقسوة حاسمة أن الحفلة بالنسبة إليّ قد انتهت، فقد قال لي «أنت الوحيد الذي لا يستطيع الانصراف من هنا»، وعندئذ فقط أدركت أن الموت يعني عدم اللقاء مع الأصدقاء إلى الأبد».

رحل ماركيز مثل أب روحي عادل، فقد وزّع ميراثه على الجميع بالتساوي.

 

المصدر: تشرين