ألف ليلة وليلة
د. ثائر زين الدين د. ثائر زين الدين

ألف ليلة وليلة

كثيراً ما يغفلُ واحدنا قيمة كنزٍ في بيتِهِ، وينظرُ إلى ما لا قيمةَ له عند الآخرين بعين الإعجاب والتقدير! وهذا ما أصابنا نحنُ العرب فيما يتعلق بواحد من أهم
الكتب في التاريخ: «ألف ليلة وليلة!»،

فجل ما فعلهُ أجدادنا أنهم نسخوا الكتاب نسخاً مختلفة، وطبعوه طبعات متعددة فحفظوه من الضياع، لكن المستشرقين هم الذين اكتشفوه وأذاعوا فضله! ولعل أهم طبعة لهذا الكتاب هي طبعة بولاق، المنجزة في مصر والمعتمدة على نسخةٍ هندية أحضرها الميجر الإنكليزي ماكان «Macan» من مصر إلى الهند وطبعت في كلكتا مرتين، جاءت الثانية منها كاملة «1833» وهناك مخطوطات كثيرة ومشهورة للكتاب أقدمها مخطوط جالان « Galand « المحفوظ في المكتبة الأهلية في باريس.‏
تُرجمَ الكتابُ إلى لغات شرقية كثيرة؛ فهناك تراجم تركية بعضها ناقص والآخر كامل ترجع إحداها إلى 1636، وهناك تراجم فارسية وأوردية عن الأصل العربي أو الإنكليزي.‏
وقد انتبَهَ الغربيون إلى ألف ليلة وليلة حين قامَ أنطون جالان بترجمتها إلى الفرنسية، وتؤكد د. سهير القلماوي أن جالان ترجَمَ قبل ذلك قصص سندباد، ثُم أسعدهُ الحظ بأن أرسلت إليهِ من حلب «وهو يعمل في سفارة بلاده في تركيا» أربعة مجلدات من الليالي فبدأَ الترجمة سنة 1704 وأنهاها 1717، ومع أنها لم تكن أمينة للأصل وناقصة، فإن سِر نجاحها الكبير هو شخصية المترجم الذي كان قاصاً بطبعهِ.‏
بقيت الترجمة المذكورة خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تمثل للأوربيين مفهوم الشرق بصورة عامة، فترجمت إلى لغات أوربا كلها ولاقت نجاحاً عظيماً، ثم جاءت مرحلة أخرى بدأت فيها تلك الشعوب تترجم الأثر عن الأصل العربي ومنها ترجمة المستشرق الإنكليزي المشهور لين «Ed.w.lane» التي أنجزها بين عامي «1839- 1841» ولقد غيرت ترجمةُ الليالي إلى أوروبا اتجاه النظر إلى الشرق، بل رؤيا أوروبا للشرق وللعرب، ولكنها في الآن نفسه أثرت في حياة أوروبا أكثر من ذلك بكثير؛ عن طريق تأثيرها على الأدب والمسرح والفن والموسيقا.‏
وكل ذلك بسبب ما فيها من خيال رائع وثاب غني، وجسارة ومغامرة جاءت بدلاً لتلك الينابع الكلاسيكية التقليدية التي كان الغربُ قد ملها! تكتب مجلة “ابن الوطن” الروسية عن الليالي بعد أن ترجُمت إلى الروسية عن جالان في اثني عَشرَ مجلداً «1763– 1771» وطُبعت مَرات عديدة: “.. لوحة دقيقة لروح ولطابع الحياة المدنية، وللطبائع الأسرية لشعبٍ كانَ قوياً في غابر الأزمان، وانتشرت منجزاتُهُ في أطراف العالم الثلاث. ونحنُ نتعرف من خلال هذهِ الأساطير على العرب تحتَ خيام الصحراء، وفي قصور الخلفاء، وفي المجتمعات التجارية، وفي القوافِلِ الرُحل، وفي الواقع الاجتماعي”.‏
أما المستشرق الشهير سيمسون دي ساسي فيتوقف عند عنصري الخيالِ والتشويق في الكتاب فيقول: “يجب أن نعد العرب معلمين لنا في ابتكار الأحداث الشيقة، وفي العناية والاهتمام بالتنويع المستمر من خلال عالم الأساطير المتألق للسحرةِ والعجائب، الذي يجعل حدود العالم أكثر اتساعاً وثراءً وينمي القوى الإنسانية، وينقلنا إلى آفاق الروعة، ويثير دهشتنا حيال المفاجآت”، وستصلُ درجة تقدير هذا الكتاب مرتبةً تجعل كاتباً كبيراً معاصراً هو بورخيس يقول: “لقد نشرَ جالان مُجلدهُ الأول عام 1704 وأثارَ نوعاً من الفضيحة، لكنهُ في نفس الوقت سَحَرَ فرنسا العقلانية التي كان يحكمها لويس الرابع عشر، عندما نتأمل بالحركة الرومنتيكية نفكر عادةً بتواريخ جاءت جد متأخرة. لكن يمكننا القول إن الرومنتيكية بدأت في تلك اللحظة عندما قرأ شخصٌ ما في باريس أو النرويج «ألف ليلة وليلة». هذا القارئ يترك العالم الذي شرعَهُ بوالو ويدخل عالم الحرية الرومنتيكية”.‏
ويؤكد بورخيس أن الليالي كتاب عَشقَهُ منذُ الطفولة، وأول ما قرأهُ من أعمال، وقد لعبَ دوراً كبيراً في بناء شخصيتِهِ الأدبية.‏
وسنسمَعُ من ماركيز ما يشبهُ هذا القول حين يروي أن المصادفة جعلتهُ يعثر في مكتبة جده على “ألف ليلة وليلة” وأنه لو لم يفعل لما صار أديباً: “هو ما صنَعَ مني أديباً، بعد أن سحرتني الحكايات داخله، وأكثر ما شُغفتُ به هو دور الراوي”، وقبل هذين العملاقين ألم يتمنى فولتير لو أنهُ يفقد الذاكرة ليستعيد لذة قراءة الليالي من جديد؟ وهل يستطيعُ قارئ قصص هانس أندرسن أن يتغاضى عن كثير من الإشاراتِ والتشابهات القادمةِ من الليالي إلى قصصه، والتي انغرست في خيالِهِ الطفل عندما كان أبوهُ صانع الدمى الخشبية يروي لهُ تلك الحكايات والحكايات الشعبية الدانمركية.‏