الشعبية الفنية بين التفريغ والتعبئة الثقافية
سلاف محمد صالح سلاف محمد صالح

الشعبية الفنية بين التفريغ والتعبئة الثقافية

تلتقي عند الشعبية- باعتبارها موروثاً ثقافياً أو فولكلورياً- صفات الفن ومحتواه الفكري وخصائصه ووظائفه الاجتماعية. ولدى النظر في واقع النشاط الفني في الوقت الحالي انطلاقاً من حجم الشعبية التي تتكثف فيها المشاعر والعواطف وتعدد البنى النفسية والأمزجة الاجتماعية، فإنه يبرز السؤال عن هدف الشعبية اليوم خصوصاً في الدراما التلفزيونية، وكيف تنعكس؟ بالتالي، على تقدُّم الفئات الشعبية التي يُفترض أنَّ شكل الفن هذا يوجَّه إليها، ويعبِّر عنها.

تُقاس شعبية الفن في ظروف الصراع الاجتماعي بمدى علاقته بعصره، وتقدميته في تعبيره عن مصالح الفئات العريضة من الشعب، والخاضعة للاستغلال من قبل فئة قليلة تزداد ضيقاً اليوم بفعل الأزمة وآثارها. ولدى التدقيق في الشعبية اليوم، فإننا نكاد نجزم، ولربما نجزم، أنها لا تغادر الكمّ إلى النوع. وعليه، فإن الكمّ- بمعنى حجم الظواهر الاجتماعية التي يُحشى فيها العمل الفني- ليس كافياً للبتِّ بشعبيته؛ إذ رغم تحقيق دراما البيئة الشامية على سبيل المثال شكلاً من أشكال الَّلذة والمتعة الفنية، فإن القيم الفنية التي تقدمها، لا تمثل ثروةً روحيةً جامعةً تضاف إلى الثقافة الجامعة. وينبغي التساؤل جدَّياً عن علاقة تلك القيم بالقيم الإنسانية والفنّية التي نشأت خلال تطوّر الشعب، لتصبح في متناول أجياله اللاحقة. كما ينبغي طرح تساؤل جدي آخر يتعلق بمدى تحقيق تلك القيم لشعور التواصل بين أجيال اليوم مع أجداد الأمس. وبالتالي، اعتبارها جزءاً أصيلاً من تراثنا الحضاري من عدمه. وعليه، البحث في اعتبارها بذوراً ثوريةً من عدمها، وبالتالي في تحقيقها القيمة الثابتة جمالياً لها في المستقبل.
إنَّ الفن الشعبي في دراما البيئة الشامية في مثالنا اليوم يُصنع ويتطور ضمن حدود تشغيله من قبل رأس المال- شركات الإنتاج الساعية إلى الربح الأقصى. ولذلك رغم ما نشهده من زخم في الأعمال والإنتاج الدرامي الشعبي، ومن احترافية فنية عالية، فهو يفتقر إلى العناصر الروحية والجمالية اللازمة في إنتاجه المادي ذاته، لأنه يتجاهل الانطلاق في معالجته لظواهر البيئة الشامية المعنية انطلاقاً من التناقضات الاجتماعية القائمة في حينه.
-2-
شأنها شأن المجتمعات في دول المركز، ورغم عدم بلوغ القوى المنتجة في مجتمعاتنا درجة التطور الكافي، نتجَ عن تقسيم العمل انفصالُ الوحدةِ العضوية بين الإنتاجين المادي والفكري بشكلٍ أدى إلى انفصالٍ الفن عن الشعب، والشعب عن الفن، كناتجٍ من نواتج التناقضات الاجتماعية خلال التقدم الاجتماعي، وهو ما ينبغي معالجته ديالكتيكياً:
رأت الماركسية أنَّ المجتمع يمرُّ في تطوره بمرحلتين أساسيتين: تصاغ في الأولى عناصره القومية الخاصة بشكل واضحٍ، متضمناً عناصرَه الفنيةَ الخاصة التي تكون فلكلوريةً- شعبيةً بشكل حاد (المواويل- الدبكة- أغاني تعكس ثوريةً ومناهضةً في بعضها للتناقض الاجتماعي: زينوا المرجة..)، وهي بالتالي قريبةٌ من الفهم للشعب المعيَّن، وبعيدةٌ عن إدراك الأمم الأخرى. بمعنى، أن عناصر المجتمع تمر بمرحلة طفولية. وما ينتج عنه في تلك المرحلة، هو حدسٌ وتنبؤٌ غير معرفي بالواقع وظواهره الموضوعية. ولا يمكن بحالٍ من الأحوال، أن يظلَّ المجتمع طفولياً للأبد، أو ألَّا يمرَّ بطفولته، كما لا يمكن أن يشبَّ دون طفولة، لكنه لا يعود إليها. والمجتمع البرجوازي يسحق جميع أشكال الإبداع الفني الطفولي تلك، ويخلق جميع الظروف الملائمة لفنائه. فالقضاء على الحِرف (صناعة الزجاج مثلاً) يؤدي إلى القضاء على أشكال الفن التي ترتبط بها (فن الزخرفة مثلاً).. وهكذا، فإن رعاية رأس المال للدراما الشعبية لا تغادر حدود تحقيقه للريع السريع منها.
أما في المرحلة الثانية: تصبح فيها العناصر المشكِّلة للوعي الاجتماعي أكثر تعقيداً، بما فيها الفن الذي يصير مثقفاً بعيداً عن إدراك المجتمع المعني له، ولكنه قريب من إدراك المجتمعات الأخرى. واللافت هنا العناصر المحددة للأمة تصبح أكثر نضوجاً بنضوج العقل الواعي، ويغدو التعبير عن الواقع مطابقاً لمضمونه وحقائقه الموضوعية. وإلى جانب أشكال الوعي الاجتماعي الأخرى (علميةً أو فلسفيةً..)، يصبح الفن إيجابياً معبّراً عن مصالح الأغلبية الساحقة من الشعب، وهذا بالضبط ما يجعله شعبياً.
وتوجد علاقة بين الفنَّين تفرض على شكل الفن الثاني (الفنّ المثقف):
أولاً: عدم العودة إلى الأشكال البدائية للنشاط الفني الإبداعي البشري؛ إذ إن إلغاء النتائج والمنجزات الإبداعية الناتجة عن النشاط الفني لدى انفصال الفن وحصوله على استقلاله النسبي، هو إلغاء لقانونية التطور الطبيعي الموضوعي للمجتمعات في أحد أهم جوانبها المشكلة للوعي الاجتماعي، وإلغاء بالتالي للمنجزات الأصيلة التي خرج بها الفن المثقف، وعودة رجعية إلى الأشكال البدائية للفن ونشاطه.
ثانياً: الانتهال من جميع الوسائل وجميع الإبداعات المتوارثة عبر الأجيال خلال تطور المجتمع، ويدفع بها إلى الأمام. وعليه، فإننا مجدداً ننفي عن الفنَّ المثقف عدم شعبيته.
غير أنه لا يمكننا نفي أن الفن المثقف هذا، وبسبب من فرديةِ المثقف، يكون أكثر عرضة لمغريات الزبون الرأسمالي. على أنه لا ينبغي أن يُبخس حقه في قابليته للخروج- كإنتاجٍ فرديٍّ- من عباءة الطبقات السائدة، والاعتراف بقدرته على التشبُّع من جذوره الشعبية الأصيلة أثناء تطوره وتخصصه وتعقده. ورغم كون ثمار هذا الفن تُجنى عادةً من الطبقات السائدة، لكنه لدى كثير من الفنانيين المثقفين التقدميين يعبّر عن خصائص وحياة الشعب، ويصورونها بدقة وعمق وصولاً إلى التعبير عن اهتمامات الشعب الجذرية بشكلٍ صريح وجاد يفوق الفلكلور ذاته (الشيخ إمام- زياد الرحباني- عبد الرحمن منيف- الماغوط..). وعليه، فهو أهم شكل مِن أشكال التعبير عن المثل الجمالية الشعبية الأصيلة في الفن والمجتمع، وهو مَن يُعيد للشعب الفرصة للمشاركة في النشاط والإبداع الفني والمتعة الجمالية بشكلٍ يناقض صراحة نظرية (الفن للفن) التي يسوّق لها فئة من فناني الفن المثقف.
-3-
لحل مسألة انفصال الفن والشعب عن بعضهما، وعدم إدراك الشعب للعديد من جوانب الفن المثقف، ينبغي التخلي عن تبنّي المنطق المثالي القائل بضرورة رفع مستوى الوعي الاجتماعي (علمياً وفنياً وأخلاقياً..)، وهو ما تفترض تلك النظرة المثالية أنه ما يقود إلى تهيئة البيئة اللازمة لتغيير الظروف الواقعية. وإنما من المهم أن نعي.
فمسألة انفصال الفن والشعب عن بعضهما، لن تُحَلّ سوى على أساس حلّ التناقض الاجتماعي القائم، يكمن في تغيير شكل العلاقات السائدة، ليعّير عن مصالح المستغَلين الحقيقية عوضاً عن المستغِلين، وهي إحدى المهمات الأساسية التي يجب أن يلعب الفن اليوم دوراً شعبياً أساسياً فيها.

معلومات إضافية

العدد رقم:
945