الصورة الفنّية في النظرية الجمالية
بشار الدهان بشار الدهان

الصورة الفنّية في النظرية الجمالية

كانت الصورة الفنية وما زالت هي المفهوم المحوري في النظرية الجمالية، رغم ظهور اتجاهات عدة في السنوات الأخيرة، وخاصة في علم الجمال البورجوازي للتخلي عن تحليل هذا المفهوم يدعون أن التفكير بلغة الصور الفنية ليس خاصة مميزة للفن، وإن الصورة الفنية ليست سمة جوهرية للفن. 

من الطبيعي أن يستبعد مثل هذا التفسير الدلالة الإيديولوجية للفن والتزامه الطبقي والاجتماعي، خاصة بعد أن استسلم الباحثون البرجوازيون في علم الجمال، للاتجاهات الخطرة- للمودرنية، وعالجوا كل شعوذاتها بجدية بالغة، في محاولاتهم لتبرير تفريغ الفن من محتواه الإنساني، الذي أدى إلى أن يفقدوا هم أنفسهم كلَّ نوع من المعايير الإنسانية. ومع هذا فإن ثمة قوى جديدة تنمو في المجتمع البورجوازي تقف في وجه هذه العملية لتفريغ الفن من محتواه الإنساني. فالطبقة العاملة والمثقفون التقدميون يبذلون جهداً كبيراً لإنقاذ القيم الفنية في ظروف لا تتورَّع فيها الروح التجارية المستشرسة والسياسة الرجعية عن تحطيم كل ما هو إنساني من أجل المصالح الأنانية لعصبة صغيرة من مكتنزي المال.

نظرية الانعكاس

يمكن حل مشكلة الصورة الفنية على أساس نظرية الانعكاس، وهي النظرية المادية والجدلية في المعرفة، والأساس الذي تقوم عليه هو أن المادة حقيقة موضوعية مستقلة عن شعورنا أو تفكيرنا أو حواسّنا. وأنّ الواقع هو الذي يكون إحساساتنا ومدركاتنا وأفكارنا: الإنسان يتقدَّم الأشكال الأولية لعكس الواقع أي من الإحساسات والمدركات الحسية- إلى صياغة المفاهيم والقوانين والمقولات- العلمية، عن طريق معالجة هذه المعطيات الحسية. والمعرفة هي العملية اللانهائية للاقتراب من الحقيقة المطلقة. وعلى هذا فإن عكس الواقع لا يعني نقله على نحو سلبي في معظم الأحيان، وإن انعكاس الطبيعة في فكر الإنسان ينبغي ألا يفهم على نحو مجرد لا حياة فيه، على نحو يخلو من الحركة ويخلو من التناقضات. وإن الأهمية البالغة للخيال، التي لا تقف عند الشاعر أو الكاتب أو المخرج... بل تمتد لعلم الرياضيات أيضاً. مع أن الخيال هو قائم في التعميمات البسيطة الأولية. لكنه ينبغي أن يستند إلى الواقع، وأن يكّون صورة نوعية لعكس الواقع، لا أن يحلق فوقه.

المرآة الهامدة

إن الإنسان ككائن اجتماعي يدرك الواقع، ولهذا فإن شعوره لا يمكن أن يكون مرآة هامدة تعكس العالم الحقيقي على نحو سلبي. كما أنه يسعى دائماً في إدراكه للواقع إلى التأثير على مجرى تطوره. وهو يتخذ موقفاً إلى جانب هذه الطبقة- أو القوة الاجتماعية- أو تلك. ومن هنا ترى نظرية الانعكاس، أن أساس وهدف ومعيار المعرفة هو الخبرة الاجتماعية التاريخية للجنس البشري.
الفنّ من وجهة النظر هذه هو شكل نوعي من أشكال انعكاس الواقع، وهذا الانعكاس يطالعنا بوجوه مختلفة في الفن الواقعي والرومانسي والطبيعي، لكنّه يظلُّ انعكاساً. وهو يختلف أيضاً في الشعر عنه في النحت أو العمارة أو التصوير أو الرقص أو التمثيل ولكنه يظل مع ذلك انعكاساً.
وبما أن العمل الفني الحقيقي هو عالم كامل في صورة مصغرة. فقصائد هوميروس مثلاً تعطينا صورة عن الاقتصاد والبنية الاجتماعية والآراء الجمالية والأخلاقيات عند قدماء اليونان. كما أن الصورة والفكرة تتفقان في أنهما لا تدعيان تكرار الواقع.

الفكرة والصورة

الفكرة- شأنها شأن الصورة تطرح جانباً بعض سمات الموضوع. وهذا دليل يؤكد استحاله نقل صورة طبيعية للواقع. والسمة المميزة للصورة هي أنها لا تستبعد فحسب بعض السمات الشيء، ولكنها تضيف إليه سمات جديدة أي سمات غير موجودة في الموضوع. وإن الفن حين يصور الظواهر دون إمعان في نقلها بكل تفاصيلها، ينجح في النفاذ إلى جوهر الواقع. ومن هنا اعترف هيجل بإمكانية اللجوء إلى المفارقة التاريخية، عند تصوير الأحداث التاريخية طالما كان ذلك يستهدف- بطبيعة الحال- الكشف عن منطق التاريخ بصورة أعمق. فمن الممكن إضافة ملامح إلى الموضوع، ولكن إلى الحد التي تساعد فيه على تصوير المعالم على نحو أكثر صواباً وعمقاً، والكشف بصورة أكثر اقناعاً عن السمات الجوهرية للواقع بكل ما فيه من تعقيد وتناقضات وتطور.

مشاعرنا والصورة

يتخذ النقد في الصورة شكل المقولات الجمالية، وتكون له دائماً طبيعة انفعالية، فالصورة تحرك مشاعرنا وتهبنا متعة جمالية، ولا تخاطب فينا العقل وحده بل العواطف أيضاً. وليس من الضروري أن يعبر الفنان عن هذا النقد تعبيراً مباشراً فهو قد يخفيه بعناية، ولكنه موجود دائماً.
إن الصورة التي لا تخاطب العواطف والمشاعر ليست بالصورة الفنية أو الجمالية!! فالصورة الجمالية تدعو إلى هذه الفكرة أو تلك وتكون جذورها عميقة ترسخ في فكرنا وعواطفنا، وتبقى لسنوات طويلة، على عكس الصورة والفكرة ذات الجذور السطحية التي تنتشر بشكل أوسع لتعطي مساحات واسعة بين شرائح المجتمع لكنها ستزول بأسرع وقت دون أن نتذكر منها شيئاً. كما يجب ألا تكون الصورة ذات طابع تعليمي صريح، وحين يتسم الفن بالتعليمية الجافة يكف أن يكون فناً بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة. فالفن يصور المثل الأعلى كشيء يوجد وجوداً فعلياً، أي كشيء حقيقي. وبقدر ما يكون التصوير مقنعاً، بقدر ما يزيد تأثير العمل الفني على فعل ومشاعر الإنسان.

life of pi

سأضرب مثالاً واضحاً عن كل ما سبق ذكره، وهو فيلم حياة باي (life of pi) إنتاج أمريكي عام 2012 للمخرج التايواني (أنج لي) (Ang lee) والممثل الهندي (سوراج شارما) (Sorage Sharma) وقد قدم هذا الفيلم صورة فنية عميقة وفلسفية بمعنى البقاء، من خلال صراع دام أياماً طويلة بين نمر وفتى يافع على سطح مركب صغير في وسط البحر. وبيّن لنا المخرج كيف أن البقاء ليس للقوة فقط التي يمتلكها النمر، بل من خلال الذكاء والرحمة البشرية التي يمتلكها الإنسان، يمكن أن يبقى كلاهما ويتنصران على الطبيعة ليصلا إلى شط الأمان.
وفي الختام، لا بد من التأكيد على أن الصورة الفنية تفقد قيمتها وفنيتها إذا لم ينقل العام من خلال الخاص. ولما كانت هاتان القضيتان ليستا محل جدال، فلا بد أن يكون واضحاً، أن الصورة الفنية هي مقوم أصيل من مقومات الفن الحقيقي، وأن تدهور الفن يتمثل- في المقام الأول- في تحلل الصورة الفنية. وهذا ما يؤكده علماء الجمال الماركسي، والتجربة تبين أنهم على صواب.

معلومات إضافية

العدد رقم:
943
آخر تعديل على الإثنين, 09 كانون1/ديسمبر 2019 12:25