«المثل الأعلى في الفن»
بشار دهان بشار دهان

«المثل الأعلى في الفن»

خلق الشخصيات التي تجسد المثل الأعلى سمة مميزة دائماً للفن ولطالما كان الفنان وفياً بمسؤوليته نحو المجتمع ووضع يده على نبض الناس.

إن الواقع الاجتماعي إذا التمسنا المزيد من الدقة هو الذي يحدد المثل الأعلى. لكن هذا المثل الأعلى ليس بحال من الأحوال صورة منعكسة في مرآة. ذلك لأنه لا يعكس كل جوانب الحياة، إنما ينعكس فقط أكثر جوانبها قيمة وحيوية وجاذبية، أو يعكس جوانبها «الأرقى أخلاقياً» على حد تعبير لينين.

سوبر مان

والمثل الأعلى حين يعبّر عن الحياة في أرقى مظاهرها وأكثر نزعاتها ومفاهيمها يصبح هو المعيار الأعلى للمأمول فيه، والتعبير الأرقى عن هدف معين. يقول لينين في أحد مؤلفاته الفلسفية «إن الإنسان يحتاج إلى المثل الأعلى، لكنه يحتاج إلى مثلٍ أعلى إنسانياً يتماشى مع الطبيعة لا مثل أعلى خارق للطبيعة»، أي أبطال حقيقيون وليسوا شخصيات خيالية على شاكله (سوبر مان) وغيره. إن مثلنا الأعلى ليس تطوراً مجرداً للمأمول فيه، لأنه يضرب في جذوره العميقة أوضاع العالم الحقيقية، فالناس لا يحتاجون إلى مثل أعلى لكي يغرقوا في أحلام اليقظة العميقة، بل لكي يقوموا بتغيير الحياة بصورة علمية.
وللمثل الأعلى وجهان، الأول أنه يجسد كل ما هو أكثر تقدمية، يجسد أرقى المنجزات التي تحمل بذور المستقبل. والثاني أنه يرتبط بالماضي والحاضر وبذلك يشير إلى طريق التقدم نحو المستقبل محدداً الهدف والوسائل التي يمكن أن يتحقق بها.
من هنا فالمثل الأعلى يظهر أولاً كناتج للفكر ثم يتحقق بعد ذلك في الحياة، وفي هذا دليل على فاعلية الفكر الإنساني، وقدرته التي تتجاوز الرؤية إلى التنبؤ، فهي لا تقف على النقيض من الواقع بل تتخطاه إلى إبداع واقع جديد. وهذا يؤكد ضخامة المسؤولية التي يجب أن يتحملها الفنان، وفي كافة مجالات الفنون، عند خلق المثل الأعلى مبيناً للناس من خلاله كافة الملامح الجمالية والأخلاقية، ومشيعاً فيهم الثقة بالمستقبل والرغبة البارعة في الكفاح من أجله.
ليس بوسع الإنسان أن يفصل بين الوظائف المعرفية والتعليمية للعمل الفني. ومن المستحيل أن نستوعب كل ما تنطوي عليه هذه المسألة من تعقيد، دون أن نضع في اعتبارنا موقف الكاتب والمخرج مثلاً في الموضوع الذي يعالجانه، وطبيعة المثل الأعلى الجمالي القائم خلف صورة. لكن هذا- على وجه التحديد- هو الأمر الذي يُهمله بعض النقاد، إنهم يتجاهلون أن هدف الفنان وواجبه تصوير الحياة بكل ما تنطوي عليه من تنوع وتعقيد. فهو لا يختار ببساطة تصوير ظواهر إيجابية أو سلبية، بل يستهدف تقديم صورة صادقة وعميقة للصراع بين البطل الإيجابي والقوى التي تعترض سبيله، وأن يكشف عن كلا العنصرين في وحدتهماالجدلية، إن المثل الأعلى عند الكاتب أو المخرج يلقي بضوئه على أكثر جوانب الحياة قتامة ويحفز الناس إلى النضال ضد النقص الإنساني. وفي غيبة مثل أعلى قوي بما فيه الكفاية تتعرض الحقيقة للتشويه سواء عن قصد أو عن غير قصد، أو يتحول العمل إلى نواح بلا معنى.
لسنا بحاجة إلى القول إننا لا نقصد بالمُثُل العليا قصوراً مشيدة في الهواء بل مطامح تضرب بجذورها في الواقع. فالإنسان يجب أن يستشف بخياله، اللحظة التي تبزغ بها براعم المستقبل. وكذلك يأخذ الفنان هذه البراعم التي تبشر، رغم ضآلتها بمستقبل جديد وأفضل، ويركزها ويعمل عليها ليجعل منها «لؤلؤ ابداعه».
إن الشخصيات البطولية في الحياة شأنها شأن الشخصيات التي تجسد المثل الأعلى في الفن لكونها نماذج ملهمة، تتوهج في الظلمة مثل قلب دانكو، تضيء الطريق إلى المستقبل، وفوق ذلك هي صادقة وواقعية، والناس يحذون حذو أولئك الأبطال ولا يفعلون ذلك بطريقة عمياء، وإنما لأنهم يعترفون بحقيقيتهم التاريخية.

«بطولة الحافز الذاتي»

إن النقد الفني في الآونة الأخيرة يتضمن بين الحين والآخر إشارات إلى حديث لينين عن «بطولة الحافز الذاتي» و« بطولة العمل اليومي للناس». الذي يعطي تأكيداً خاصاً لكلمة «يومي»، أي إن التشديد هو على الأحداث اليومية الروتينية وتصوير الفنان لها. ويؤكد لينين على وجه التحديد بطولة العمل اليومي، ولا يعني أن كل عمل روتيني هو بالضرورة عمل بطولي، كما أكد لينين أن العمل اليومي خلال الثورة والحرب الأهلية وفترة إعادة بناء الاقتصاد المخرب كان شاهداً بليغاً على شجاعة وبطولة الإنسان العامل. إن بناء الشيوعية هو بحد ذاته مهمة بطولية، واتخاذ موقف أمينٍ، حيّ الضمير من العمل، هو القادر وحده على خلق الظروف الضرورية لحياة تستحق هذا الاسم، فحين يُقبل الانسان على عمله باجتماع قلبه وروحه دون التفكير في ذاته، فإن أكثر الأعمال العادية والروتينية يكتسب عندئذٍ طابعاً بطولياً.

بطولات الجندي الأمريكي

والفن الذي يناصب المجتمع العداء ويفتقر إلى المثل العليا السامية، والذي يتجاهل الصراع الطبقي ومشكلات الحياة الأساسية هو فن متدهور في الحداثة البرجوازية، وهو أخطر ما يهدد الفن الخلاق. وأكبر دليل على ذلك الكم الهائل من الأفلام التي عرضت بطولات الجندي الأمريكي في معركته وحربه الخاسرة على أرض فيتنام.
فالسينمائي الواعي، لا يحتاج إلى الكذب، بل هو بحاجة إلى خلق أبطال إيجابيين حقيقيين يلهمون الملايين بما يضربونه من مثل صادق، وهذه مهمة على جانب كبير من الأهمية يتحمل كل فنان عبأها.
لقد تمخضت كل العصور عن أناس تتجسد في شخصياتهم أنبل الصفات ويعبرون عن المصالح الحيوية والاحتياجات الجوهرية لعصرهم ومجتمعهم، وقد حاول العديد من الكتاب والمخرجين التقدميين دائماً أن يبدعوا شخصيات تجعل من صفاتها النبيلة «مثلاً أعلى» يُضيء الطريق، الشعلة المتوهجة إلى مستقبل أكثر إشراقاً وصدقاً.
ولنضرب مثلاً عن المثل الأعلى في الفن، وهو شخصية العجوز في رواية «الشيخ والبحر» التي كتبها الكاتب الشهير أرنست همنغواي عام 1953 وحصل على جائزة نوبل للأدب على روايته هذه عام 1954 وتحولت الرواية إلى فيلم سينمائي في نفس العام أخرجه المخرجان جون ستورجس وفريد زينمان، وجسد شخصية العجوز الممثل العملاق أنتوني كوين، وتحكي هذه الرواية قصة الصراع المرير بين صياد كوبي «كبير بالسن» وسمكة مارلين عملاقة، استمر لثلاثة أيام متواصلة انتهت بخسارته لها.

«الشيخ والبحر»

إن بطل هذه الرواية والفيلم هو بالطبع مثل أعلى في الفن، قوته وضميره وتحمله لمدة ثلاثة أيام يؤكد لنا هذا، كما أن لهذه الرؤية مثلاً أعلى آخر أكثر تأثيراً لأنه ليس من الخيال بل من واقع الحياة، ففي أحد اللقاءات مع الكاتب همنغواي صرح الكاتب بأن الصياد الذي كان يعمل على يخته ويدعى جريجوريو فوينتيس، هو الذي ألهمه شخصية العجوز من روايته الشهيرة هذه، حيث كان يتخيل نفسه يمتلك قوة ونشاط هذا الصياد الكوبي الشاب، ومن هذه المقاربة أحياناً والمقارنة أحياناً ابتدع وكتب رائعته «الشيخ والبحر» وبالفعل قبل أن يغادر كوبا عام 1960 قام بإهداء يخته إلى الصياد جريجوريو فوينتيس، ولكن بدوره شعر فوينتيس بأن هذا اليخت لا يجب أن يكون ملكه!! بل يجب أن يكون ملكاً للشعب الكوبي فقام بإهدائه إلى حكومته التي جعلت من مزرعة همنغواي متحفاً ووضعت اليخت في حديقة المزرعة.
هكذا عبّر هذا الشاب فوينتيس عن حبه لوطنه وشعبه، ليجسد لنا بهذا، مثلاً أعلى واقعياً وحقيقياً نقتدي به وبحبه وعطائه وتفانيه لوطنه.

معلومات إضافية

العدد رقم:
933
آخر تعديل على الإثنين, 30 أيلول/سبتمبر 2019 14:48