الصراع الإيدولوجي كممارسة إيديولوجية
محمد المعوش محمد المعوش

الصراع الإيدولوجي كممارسة إيديولوجية

إن الصراع الطبقي كانعكاس لانقسام المجتمع إلى طبقات وقوى اجتماعية لها مصالحها المتناقضة والمتعارضة يحدد مختلف شروط ممارسة هذه الطبقات والقوى. فالمُستغَلون وبسبب تغييب مصالحهم من قبل المُستَغِلّين فإنهم بالضرورة سيقفون موقفاً محدداً تجاه وجودهم الاجتماعي، الذي يُعبر عن هذا القهر والحرمان بمختلف أشكاله. ولكن وبسبب تعقيد شروط الاستغلال وتعقدها مع الوقت، فإنه ليس سهلاً على القوى التي تطالب بتحقيق مصالحها المغيّبة. أولاً: أن تعي كيفية حصول هذا التغييب الذي تحكمه قوانين اقتصادية وسياسية محددة. وثانياً: أن تحدد الخطوات الملموسة لتحصيل هذه الحقوق.

هذه الشروط الماديّة تحكم الصراع على مستوى الوعي في البنية الاجتماعية نفسها في كل مرحلة تاريخية محددة. فالنظام القائم مدفوع بالضرورة لتبرير وجوده على مستوى الوعي أولاً. وثانياً: لتشويه آلية الاستغلال وحرف الصراع الاجتماعي عن مساره الضروري. لهذا فإن كل نظام تبدأ أسس هيمنته بالاهتزاز عند اهتزاز السرديّة التي يهيمن فيها على وعي القوى الاجتماعية المقهورة بشكل أساس، ومن ثم تُعاق قدرته على حرف الصراع عندما يواجه صعوبة في تشويه آلية الصراع، إذا ما توفرت القوى القادرة على ترجمة هذا الاهتزاز وهذا التحريف إلى أداة هجوم فعالة. إذاً فالصراع الإيديولوجي أحد أهم مستويات التغيير، وقد يكون من أخطرها حسب ما رأيناه في التاريخ من مدى خطورة الانزلاقات والانحرافات الفكرية أو صعوبة الرؤية لدى القوى التي تصارع هيمنة أنظمة الاستغلال الطبقي، وأهمية العنصر الفكري في التحولات الاجتماعية. وبكلمة يكمن القول: أن الحرب الدائرة في البنية الاجتماعية تتطلب يقظة عالية، وقلة المبالاة تسبب لصاحبها بمقتل.

ممارسة إيديولوجية أم تَقَابُل إيديولوجيات فقط؟

حدد الشهيد مهدي عامل، متوسعاً بطروحات غرامشي: إن المهمة التي يحملها الفكر المسيطر هي الإبقاء على شروط هيمنة نظام الاستغلال نفسه، ولهذا فوظيفته الإيديولوجية هي التعمية. والتعمية لا تكون من خلال الظاهر فقط مما يعلنه هذا الفكر المسيطر، بل من خلال آلية وممارسة تقوم بدور التعمية. وهذا هو الأساس المادي لما يجب أن تكون عليه وظيفة الفكر النقيض الثوري. فالفكر الثوري لا تنحصر وظيفته بأن يضع مقولات «ثورية» بمقابل مقولات «رجعية»، بل أن يقوم بممارسة كاشفة لما يحاول الفكر المسيطِر أن يُعمي عنه. هذه العملية هي عملية إنتاج القوانين التاريخية المتحوّلة للاستغلال، أي: موضوع التعمية، وكشف عملية التعمية نفسها وآلياتها. وإذا كان موضوع التعمية يمتاز بالثبات النسبي مع الوقت، فإن آليات التعمية متحولة ومتغيرة بشكل أسرع. إذاً، ليس الصراع مع الفكر المسيطر مجرد طروحات فكرية مقابل طروحاته كما نراها لدى أغلب «اليسار» المراهق والطفولي من أصحاب الجملة الثورية كما سماهم لينين، الذين يطربون لسماع جملتهم الثورية تلك، وينتشون لها كما عبر مهدي عامل. فالطبقات المسيطرة، أيضاً، تمارس ممارسة انتباذية للصراع الطبقي كما يقول مهدي عامل، أي تنقل الصراع من مستواه السياسي (الذي هو تغيير للبنية الرأسمالية نحو الاشتراكية) إلى مستوياته الاقتصادية عبر التيار الاقتصادوي الإصلاحي، والإيديولوجية (عبر تحويل الصراع إلى فكري محض). لهذا على الطرف النقيض أن يمارس ممارسة انجذابية، أي: أن ينقل الصراع من مستواه الاقتصادي والإيديولوجي إلى مستواه السياسي، الذي هو مدخل تغيير بنية الاستغلال الرأسمالية.

التعمية بعد اقتحام مسرح التاريخ

شكَّل دخول الطبقات المقهورة إلى مسرح التاريخ بقوة في منتصف القرن الماضي، عاملاً حاسماً في تحول آليات الصراع الإيديولوجي، حيث ازداد وقتها دور القوى الشعبية، ومعها ازداد وزن الصراع الإيديولوجي نفسه لحرف وعي تلك القوى وتشويه الصراع واستعادة الهيمنة الرأسمالية. فازدادت أدوات هذا الصراع من إعلام ودعاية وتعليم وغيره. هذا على المستوى الكمي. أما على المستوى النوعي، فإنّ التحول في شروط الاستغلال التي لم تكن إلا هروباً إلى الأمام بالمعنى التاريخي من قِبَل الرأسمالية. حيث أُعطيت المكاسب المؤقتة ووُعدت الشعوب بالديمقراطية والسعادة في ظل سيادة مفاهيم السعادة الليبرالية الفردية، وتم الإعلاء من شأن الفرد وهمياً. هذا التحول أدّى أوّلاً إلى ارتفاع حظوظ التيار الإصلاحي الاقتصادوي، حيث إن القناعة- بأن وهم التحقق في ظل الرأسمالية- هيمنت على الوعي العام، ولم يتبقَ إلا محاولات إصلاح لتحسين شروط هذا التحقق. وأدى ثانياً إلى ارتفاع حظوظ تيار المواجهة الإيديولوجية، أي: من بقي يصارع الرأسمالية وفكرها بأدوات إيديولوجية فقط، حتى لو اتخذت هذه الأدوات شكلاً سياسياً ما، المتمثلة باللغة السياسية مثلاً (خذوا برامج الحوار السياسي، الفيسبوك...). وأصحاب الصراع الإيديولوجي، لم ينتبهوا إلى أن القوى الشعبية نفسها صارت هي أيضاً أداة في يد الفكر المسيطر، فبعد أن دخلت هذه القوى إلى مسرح التاريخ وتسيّست، اضطر الفكر المسيطر أن يحرّف تسيسها، بعد أن وعدها بتحققها في الرأسمالية واقتنعت وهمياً بذلك. هكذا صار أصحاب الخط الثوري يصارعون الناس، وأنتج واقع الصراع الإيديولوجي البحت مع الناس، المعادلة التالية: «لكي تكسب الناس عليك أن تهزمهم» ولا تزال هذه المعادلة القاتلة للعديد من الأحزاب الشيوعية في العالم.

التعمية في الأزمة

لا زالت آلية التعمية تلك فعالة في كبح تقدم القوى الثورية غالباً، ولكن في ظروف جديدة. فالأزمة الشاملة للرأسمالية هزت أسس هيمنة السردية الليبرالية من جهة، وعززت من اندفاع الشعب إلى الفعالية من جديد. وصارت عملية التعمية أصعب وذات مضامين جديدة، جوهرها النكران الفكري الرأسمالي للأزمة من جهة، وتشويه الاشتراكية كبديل من جهة أخرى. وصار التحريف أكثر وزناً. أما الممارسة الكاشفة، فعليها أن تُظهر الجديد لدى الجماهير، وأزمة النمط الليبرالي الرأسمالي، ونقل الشعب إلى المواجهة السياسية بكل طاقته.

معلومات إضافية

العدد رقم:
928
آخر تعديل على الإثنين, 26 آب/أغسطس 2019 14:41