الأشكال الثقافية لمجتمع الجزيرة العربية في الجاهلية الأخيرة
سلاف محمد صالح سلاف محمد صالح

الأشكال الثقافية لمجتمع الجزيرة العربية في الجاهلية الأخيرة

تنعكس الخصائص المميِّزة لكل شكل من أشكال الإنتاج الاجتماعي على الوعي الاجتماعي بخصائص تميّز الأخير، مشكِّلةً بذلك الأشكال الثقافية المعرفية للمجتمعات خلال كل فترة تاريخية من مجرى تاريخها الطويل.

نُلقي في مقالنا اليوم بعض الضوء على بعض الأشكال الثقافية في فترة الجاهلية الأخيرة، على أنه ينبغي ملاحظة أن مصطلح الجاهلية لا يعني الجهل المعرفي لمجتمع الجزيرة العربية، وإنما يتعلق بسلوكيات وأخلاقيات سابقة على ظهور الإسلام خصَّت ذلك العصر بتسميتها تلك:
-1-
لاحظ الباحثون الموضوعيون التطور العالي للمعالم الثقافية (اللغة والشعر والأمثال والخطابة والميثولوجيا..) المعبرة عن الوعي الاجتماعي لمجتمع الجزيرة العربية، الوريث للإنتاج الحضاري الثقافي في اليمن. غيرَ أنّ ذلك لم يعنِ عدم التطابق بين الوعي الاجتماعي والقاعدة المادية للإنتاج الاجتماعي في تلك المنطقة، في الفترة التاريخية المحددة بالقرنين الخامس والسادس الميلادي. فالتطور ظلّ محصوراً في الأشكال الثقافية دون أن يمس المحتوى المطابق للواقع الاجتماعي للفترة تلك.
-2-
اللغة هي المحدِّد الأول والأولي للبناء الثقافي لاتصالها المباشر بحياة الإنسان الأفقية في مجتمعه، وبالتالي فهي لا تمتلك قوانين خاصة كتلك التي للأشكال الثقافية الأخرى. وهي حيادية تجاه الإيديولوجيا. بمعنى أنها أداة تعبير عن جميع الأشكال الثقافية والفكرية والعلاقات الفردية في المجتمع في أية فترة تاريخية، وليس لها استقلال نسبي عن حياة البشر الواقعية، ولكنها تمتلك طاقةً تعادل طاقة المجتمع الكامنة تاريخياً للتطور والتقسيم في ميادين النشاط الاجتماعي المختلفة. وعليه، إن البحث في الأشكال الثقافية لأي مجتمع في أية فترة تاريخية، يتطلب البحث في بنائها اللغوي وتطوره، وفي أصوله.
وهكذا، من غير المعقول أن تكون اللغة العربية ظهرت مكتوبةً مع بدء التدوين في الإسلام خلال القرن الثاني للهجرة دون أن يكون لها جذور ضاربة في التاريخ العميق من التفاعلات والتأثيرات من بيئة ومحيط الجزيرة العربية. إذ عدا عن النصوص القرآنية الذاكرة للعديد من الكلمات الدالة على الكتابة (المداد والصحف والقلم والسجل..)، فإنه من الثابت لدى الباحثين، أن عرب الجزيرة العربية عرفوا أبجديتين قبل الإسلام؛ أبجدية الجنوب (المسند) القديمة في اليمن، وأبجدية (النبط) المشتقة عن الآرامية في الشمال الغربي، بالإضافة إلى أبجديات أخرى (ثمود والصفوية..) مشتقة عنهما. كما عرفوا كتابات الحيرة والأنبار جنوب وغرب بلاد الرافدين.
واستناداً إلى دراسات الباحثين لنقش العُلا في يثرب 306م ، وللنقوش الشهيرة الخمسة في الشمال الغربي للجزيرة وتسلسل تواريخها ومتابعة نموها وتدرجها من النبطية الخالصة حتى استقلالها الكبير عنها (أم الجمال250م- نُمارة328م زبد512م- حران568م- أم الجمال الثانية في القرن السادس الميلادي وُجِد أنه قريب إلى لغة القرآن). فإنه من الغالب أن عرب الحجاز استخدموا العربية النبطية في تعاملهم التجاري، ثم قاموا مع نهاية القرن الرابع بنشرها في عموم جزيرتهم.
ولا يزال البحث جارياً عن تلك الحلقة المفقودة من تفاعل الأبجديات تلك واللهجات في الجزيرة العربية خلال مئات السنين، لتخرج عنه اللغة العربية المستقلة. كما ينبغي ألا يفوتنا، ما كان لمكانة مكة- قريش الدينية والتجارية من أهمية لانصهار جميع اللهجات في لهجتها، خلال تفاعلها مع تلك الأبجديات القديمة، لتصبح اللهجة- اللغة المشتركة التي تتلاقى عندها صنوف التبادلات الدينية والتجارية والأدبية.. مشكلةً ظاهرة التوحد اللغوي المتناسبة مع ظاهرة تحلل المجتمع القبلي المبعثر، واتجاهه إلى التوحد في إطار بنية اقتصادية اجتماعية أرقى.
-3-
يشكل الشعر الجاهلي الأثر الأقدم للغة العربية في عصر ما قبل الإسلام، ويُعتبر أقدم وثيقة لها دلالاتها التاريخية عن تلك الحقبة، ويمكن البحث خلالها في العلاقات والوعي الاجتماعيين لمجتمع الجزيرة العربية، بما تتضمنه من عادات وتقاليد وأخلاق وصراعات.. إلخ. كما أن هذا الشعر، شأنه شأن أي معلم ثقافي آخر، فاق تطوراً المراحل التاريخية السابقة عليه، لكنه ظل أقل تطوراً من المراحل التاريخية اللاحقة. فهو شعر البيئة الاجتماعية البسيطة التي تتداخل فيها القبيلة بالفرد والعكس، فيتداخل الحب والثأر، أو الحب والحرب،.. في القصيدة الواحدة. على أن شعر الصعاليك مثَّل تلك البيئة، لكنه مثَّل رفضها أيضاً.
وقد برزت بدءاً من القدماء (ابن سلام- ابن هشام- أبو فرج الأصفهاني- المفضل الضبي-..) قضية التشكيك في نسبة هذا الشعر إلى زمانه، رغم وجود الدلائل التاريخية على المواسم والأسواق الأدبية المرافقة للأعمال الدينية والتجارية. وفي كل الأحوال، فإن لهذا الشك أسبابه:
• أسباب موضوعية تتصل بجهلنا أعلاه بالمسار التاريخي لتطور لغة الشعر الجاهلي العربية. غير أنّ علماء اللغة في عصر الإسلام حرصوا على دراسة وإظهار الفوارق بين اللغتين خلال الزمنين، واهتموا بالتغيرات الجارية عليها. كما أن الباحثين، وضمن صفة (الثبات والاستقرار) المميزة للمنتَج الثقافي للأمم، وجدوا أن اللغة لم يُصبها فعلاً كبير الأثر خلال عصور الإسلام الأولى، وتكاد تقاليد الشعر التي نظم خلالها الفرزدق والجرير والأخطل قصائدهم، تتطابق مع تلك التي في عصر ما قبل الإسلام. فقد تداخلت اللغتان في المرحلتين التاريخيتين مع تداخل مراحلهما.
• التطّرف في الصراع بين طرفين حديثين يطلقان (حقائق) مطلقة؛ أحدهما: ينزع عن الشعر الجاهلي زمانه بقصد التحرر من النزعات الدينية والقومية لإنتاج (معرفة موضوعية علمية)، ويلقيه برمته في زمن الإسلام، وهو يرفض بالتالي اعتبار الشعر وثيقة عن حال العرب في عصر ما قبل الإسلام، ويقتصر في بحثه على النصوص القرآنية والحديث للخروج برؤية عن علاقات الجاهلية. أما الطرف الآخر: فهو يتطرف بالنظر إلى جاهلية الشعر دون دراسة واستقصاء. غير أنه ظهر تيار ثالث موضوعي اتبع (النقد التاريخي والمقارنة الموضوعية) في النظر إلى الشعر الجاهلي ليس من ناحيته السكونية، وإنما الحركية التي تنظر إلى أنه لا يمكن أن يكون بلغ صورته الناضجة تلك دون تاريخ يتصل مباشرةً بتاريخ مجتمعه، وأن تطوره- أي: الشعر- جاء مع تطور أداته التعبيرية- اللغة.
• العوامل الدينية والسياسية في عصر الإسلام، والتي أدت إلى نظم الشعر، ونسبه إلى زمانٍ ليس زمانه فعلاً. لكن اصطناع الشعر، لا يمكن أن يجري دون تلبّس زمنه وعلاقاته وأخلاقه وبناه المعرفية حول الطبيعة والإنسان. أي: أن نَحْلَ الشعر ينبغي أن يتقمص ظروفه التاريخية، بما تحمله من دلالات تتصل بالعلاقات والوعي الاجتماعيين لذلك العصر. إضافةً إلى أنه لا يمكن أن يكون كل الشعر منحولاً!
• تناقل الشعر بالمشافهة حتى القرنين الثاني والثالث الهجريين، مما أدى إلى تعرضه إلى الضياع، والتحريف. لكن تناقل الشعر، تمّ محمياً بالوزن والقافية، وعلى ذلك فإن التناقل الشفهي لا يمكن أن يكون له بالغ الأثر.
• غير أن أساس الشك الاستشراقي يتصل بنزع الشعر من قاعدته الاجتماعية، وجذوره فيها، وأبرز من قام بذلك الإنكليزي مرغيلوث. وهو شكّ يمكن نقضه بإعادة الارتباط بين الشعر وقاعدته تلك.
-4-
وأخيراً، مثلت الأمثال والخطابة والميثولوجيا معالم ثقافية إضافية لها دلالاتها التاريخية على درجة تطور الوعي الاجتماعي واتجاهه نحو التوحيد مع ظهور الحنيفية، بما يتطابق مع علاقات اجتماعية تتجه للتّوحد في الجزيرة العربية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
923