موجز تطور الفلسفة السريانية

موجز تطور الفلسفة السريانية

نشأت الفلسفة السريانية في فترة أزمة وتفسخ المجتمع العبودي الروماني مع فترة انهيار المذاهب اليونانية والرومانية التي مثلت المرحلة العليا من تطور الفكر الفلسفي في المجتمع العبودي عامة. ولا يمكننا البحث في التراث السرياني بمعزل عن فلسفته وعلاقاتها المتبادلة مع الفلسفات الشرقية الأخرى، وتطورها أخيراً في عصر الاقطاع.

دور اللغة السريانية

يرتبط باللغة السريانية تراث فلسفي، هو مزيج من الأفكار المسيحية والأفلاطونية الجديدة والفيثاغورثية المحدثة والتأثيرات الحضارية البابلية والآشورية والآرامية والعربية والفارسية واليونانية والرومانية وغيرها.
أما عصرها الذهبي، فكان بين القرنين الرابع والسابع الميلادي «امتد تأثيرها حتى القرن الثالث عشر»، وتميزت تلك الحقبة بوفرة الإنتاج في الفلسفة والطب والفلك والرياضيات والعلوم الطبيعية والأدب والتاريخ والترجمة وقواعد اللغة والخط السرياني. وكانت لغة للعلم والفلسفة والتجارة، لذلك يشكل التراث السرياني اليوم أحد أهم المراجع حول تطور الأفكار الفلسفية في الشرق.

جامعة نصيبين

أسس السريان مدارسهم في الأديرة والكنائس. بلغ عددها خمسين مدرسة في بلاد ما بين النهرين وحدها. وضمت مكتباتها كتباً مترجمة في الآداب المسيحية، ومؤلفات أرسطو وجالينوس وأبقراط الذين شكَّلوا محور الدائرة العلمية في ذلك العصر.
عرف الشرق الجامعات قديماً، حيث أسس أسقف المدينة الفيلسوف مار يعقوب النصيبيني جامعة نصيبين في القرن الرابع الميلادي، وأدَّت هذه الجامعة الدور الموجه في صقل الفلسفة السريانية. وبلغ عدد طلابها 800 طالب في عصرها الذهبي.
سنَّت الجامعة ما يمكن أن نطلق عليه بوادر قوانين تنظيم الجامعات في العصر الراهن، ممثَّلةً بإحدى وعشرين قاعدةً شاملةً ملزِمةً للمدرسين والطلاب. واحتوت مشفىً للعناية بالطلبة والمدرسين حسب الباحثة بيكوليفسكايا. كما ضمَّت أول مكتبة جامعية عرفها العالم، وعُرِفت نصيبين باسم مدينة المعارف. لعبت دوراً في تأسيس جامعة جنديسابور ومدارس الرها وقنسرين، ليكون لهم دورهم المركزي المتتابع تاريخياً في نشر الثقافة السريانية.

قطار الترجمة

في دور ثقافي يعد استمراراً لما قدمه المترجمون السريان إلى الثقافة والأدب الفارسي سابقاً، قاد السريان حركة الترجمة إلى اللغة العربية، وساهموا في نقل العلوم اليونانية إليها وفي تطور الفلسفة العربية الإسلامية على حد سواء.
بلغت الحركة ذروتها في العصر العباسي شاملة الفلسفة والطب والكيمياء والفيزياء والرياضيات. وأسسوا أولى مدارس الترجمة. واحتوت مدينة بغداد نحو خمسين مترجماً سريانياً نهاية القرن الثامن.

اللحن الفخاري

ترك فلاسفتهم تراثاً كبيراً مثل «اصطيفان بن صوديلي» من حران، الذي اضطهده الأكليروس بسبب آرائه الأفلاطونية الجديدة. أما «سرجيس الرأسعيني» من أعالي الخابور، فترك مؤلفات في المنطق والطب والفلسفة والعلوم الطبيعية. ثم يأتي «مار أحودامه» الذي عاش بين باعربايا وسنجار ونصيبين، وترك مؤلفات فلسفية تسببت بصدور أمر من السلطات الإقطاعية بقطع رأسه. أما مار يعقوب السروجي من ضفاف الفرات فترك ثلاثاً وأربعين رسالة في البلاغة، وسبعمئة وستين قصيدةً ضاع أغلبها، وشروحات «مئات أوغريس الستمئة».
ومن المؤرخين يوحنا الأفسسي من ديار بكر الذي دوّن الحوادث التاريخية في القرنين الخامس والسادس، وترك «زكريا الفصيح» من فلسطين مؤلفات هامة في التاريخ. أما يوحنا العبري، مطران مدينة حلب في القرن الثالث عشر، فترك مجلدات تاريخية تتحدث عن العواقب الوخيمة للحروب الصليبية في الشرق. واشتهر شمعون الفخاري من أنطاكيا بتأليف القصائد وغنائها أثناء صناعة الفخار، وعرفت أغانيه باسم «القوقويو» أي: اللحن الفخاري.

المشاعية والمجتمعات الزراعية

مثَّل الفيلسوف مار أفرام السرياني تلميذ مار يعقوب النصيبيني ومؤسس مدرسة الرها، أحد أهم فلاسفة المجتمعات الزراعية في الشرق. وتكوَّن تراثه من اثنتي عشرة ألف قصيدة مؤلفة من ثلاثة ملايين بيت شعري. وامتد تأثيره إلى الآداب الأرمنية والقبطية والبيزنطية واليونانية واللاتينية والروسية والحبشية والعربية والكردية والفارسية. يقول مار أفرام في وصيته لتلاميذه: «فإن الفلاح الذي يحرث ويثني، تجود غلاته. لا تكونوا كسالى تُنبت حقولهم أشواكاً».
عرف السريان مفهوم «الإضراب السلمي» مبكراً، إذ رفضوا أن يكونوا جباة ضرائب عند السلطات الإقطاعية في مختلف العصور، فتعرضوا إلى اضطهاد متواصل. ويحفل التراث السرياني بمئات الشواهد على جذور المشاعة الشرقية، والتي انعكست بصورة كره سلطات الدولة والمال والدين. وساهم الارتباط المتراكم بالعمل الزراعي في تطور الوعي الاجتماعي عند السريان، الذين عرفوا تقنيات زراعية متقدمة كأنظمة الري الجبلية.
يُطلق الأكراد على السريان اسم فِلَّه «Fileh» وهي تحريف لكلمة «فلاح» باللغة العربية حسب القاموس الكردي الحديث، وكان الارتباط بالعمل الزراعي أحد أسباب تجذر المشاعة الشرقية بين السريان.
ترتبط الفلسفة السريانية بالمسيحية التي اكتسبت خصائص ثورة الجماهير ضد نظام الرق في الإمبراطورية الرومانية. وفي هذا الجانب عقد أنجلز مقارنة هامة بين حركة المسيح وحركة الطبقة العاملة في زمانه وسجل عدداً من نقاط التشابه.
داخل الفلسفة السريانية استمر الحضورُ الشديد للقيم المشاعية في المسيحية كالعداء للتجار، وتحريم كنز الأموال، ورفض دخول الأغنياء إلى الحركة ونمط الحياة المشاعية عند الحواريين. وهو ما يلقي الضوء على أسباب وقوف السريان ضد البيزنطيين والصليبيين، ومواجهتهم للسلطات الإقطاعية المحلية بالإضراب السلمي بين القرنين التاسع والتاسع عشر.

استحضار رموز الشرق

إن إبراز أهم خطوط تطور الفلسفة السريانية أعلاه، مِن «أول جامعة في العالم في نصيبين وليس باريس- أولى مدارس الترجمة- قوانين تنظيم الجامعات- تأسيس المكتبات والمشافي الجامعية- الإضراب السلمي كفكرة نشأت في تربة الشرق القديم- إضافة إلى الدور العالمي للغة السريانية كلغة للفلسفة والعلوم والتجارة»، يُحطِّم أفكار المركزية الأوروبية باحتكار تمثيل الحضارة الإنسانية، ويدفع بإتجاه إمكانية الشرق العظيم ممارسة دوره في التأثير العالمي مرة أخرى. كما يشكل استحضار الفلسفة السريانية اليوم في الجانب الحي منها إضافةً إلى فلسفات الشرق الأخرى، التقاطعات الأساسية والضرورية لعقد الصلة مع الأفكار الاشتراكية في القرن الواحد والعشرين.

معلومات إضافية

العدد رقم:
908
آخر تعديل على الإثنين, 08 نيسان/أبريل 2019 13:47