التغيير ضمن «المعقول»
محمد المعوش محمد المعوش

التغيير ضمن «المعقول»

إن التوازن الدولي الجديد الذي هو تعبير عن ضرورة الصراع مع الإمبريالية وعلاقاتها، يضع كوابح عسكرية وسياسية واقتصادية أمام الأدوات الإمبريالية للهروب من الأزمة كالحرب والفوضى والحروب الاقتصادية والتحفظ على الأصول والأموال. هذه الكوابح وإن كانت لا تعني حلاً جذرياً لأزمة النظام الرأسمالي العالمي، بل هي من جهة تعني: أنّ هناك حلولاً غير التدمير والفوضى لها أرضية أقوى، محمولة من قبل القوى المتضررة نفسها، ومن جهة أخرى هناك ضرورة للرأسمالية العالمية لكي تتلاءَم مع هذا الواقع لناحية تطوير أدواتها، دون أن تتخلى عن أدواتها المكبوحة أساساً.

ومن هذه الأدوات ما درجت الرأسمالية على استخدامه في العقود الماضية، أي: استخدام لغة التغيير والسلام والتحديث والتطوير ودعم الطاقات، من خلال مؤسساتها الأكاديمية والاختصاصات الجديدة التي أفرزتها الليبرالية، أو من خلال الجمعيات غير الحكومية التي كانت المكافئ النقيض للعمل السياسي الاجتماعي، وغير ذلك من الأدوات الشبيهة المدعومة بحرب ثقافية فكرية من أجل ضرب المفاهيم حول طبيعة الصراع الفعلي، وتفتيت القضايا، والجوهر كله يكمن في أن الرأسمالية اضطرت تحت ضغط الواقع لكي تعترف بمفردات لغة التغيير والتطوير ودعم الطاقات (الشابة منها) والبحث العلمي، ولكن على أرضيتها هي، أي: أن يبقى النقاش والتغيير هو ضمن المنظومة الرأسمالية نفسها، لا عبر تجاوزها.
وهذه الأدوات ضرورية من أجل مواجهة مناخ التغيير المتقدم في الغرب نفسه. فحتى لا تصل المواجهات المتفرقة التي يمكن أن تتلاقى مع الحراك السياسي في الغرب، هناك ضرورة لتحويل المعارك إلى مواجهات معزولة ومحصورة ضمن النظام نفسه، كي لا تكبر الدائرة المعترضة والمتحركة في مواجهة النظام مباشرة. وخصوصاً أنّ التناقضات التي تنتج اليوم عن وصول الرأسمالية إلى حدودها التاريخية تطال جميع مستويات الحياة، والتي لا تدخل إلى حد الآن ضمن النضال السياسي المباشر والمرتبط غالباً بالمقولات الاقتصادية.

التغيير: موقع تعاوني

ضمن هذه الأدوات: موقع على الانترنت يحمل اسم «التغيير» (change.org). الموقع يهدف إلى «عمل مشترك مع صانعي السياسات من أجل تحسين وتحقيق تغيير في القضايا التي تهم الناس العاديين» كما يطرح الموقع. وذلك من خلال قدرة أي شخص على تأسيس عريضة لجمع التواقيع من أجل تقديمها إلى الجهات المختصة حول قضية ما. والموقع متوفر بعدة لغات واسعة الاستخدام كالإنكليزية والصينية والروسية والفرنسية والإسبانية، ما عدا العربية، ربما لكونه مطروحاً لمجتمعات محددة لا زالت هذه الأدوات قادرة فيها على كبح وتشويه تقدم فكر التغيير المواجه للرأسمالية ككل.
الموقع غير الربحي طبعاً، والذي يطلب مساعدة المتطوعين والمتبرعين، يقدم على صفحته الأولى رقماً يقول: إن عدد المشاركين في نشاط الموقع عبر العرائض هو حوالي 279 مليون شخص حول العالم. الرقم ليس بسيطاً إذا ما كان حقيقياً، فهو يعني أنه إلى جانب منظومة اللهو وقتل الفعالية التي يقوم بها فيسبوك الذي يضم نصف الكرة الأرضية تقريباً، هناك منظومات أخرى داعمة له كهذا الموقع، ولكن ضمن سياق آخر.

قضايا «منتصرة»

تحت عنوان: «قضايا منتصرة» و«نصر في كل يوم» يعرض الموقع القضايا التي حققت «انتصاراً» بعد جمع التواقيع اللازمة، وعليها التي وصل بعضها إلى ربع مليون توقيع على عريضة واحدة. من هذه القضايا مثلاً: قضية الشابتين الكنديتين اللتين وقعتا عريضة من أجل فرض الأكواب القابلة للتدوير على شركة المقاهي العالمي «ستاربكس»، فوافقت الشركة على تخصيص حوالي 10 ملايين دولار من أجل عملية الاستبدال تلك. قضية أخرى، تلك التي العريضة التي تم التوقيع عليها من أجل تغريم زوجين في ماليزيا أساءا معاملة العاملة المنزلية وخضعا للعقاب القانوني الرسمي نتيجة لحملة التضامن الواسعة معها. وتتنوع القضايا بين الرياضة والقانون والفن والأكاديمية، ولكن فيها كلها يتحرك منطق واحد، تفتيت الواقع وتحويل الانتباه من قضية أزمة بنيوية في النظام إلى أزمات قابلة لـ «العلاج» والتغيير كما يطرح الموقع. والموقع مكتوب عنه في الصحافة العالمية أنه الأكثر تأثيراً في مجال العمل الاجتماعي الذي يجمع الناشطين.

من التغيير إلى تثبيت الواقع

النتيجة العامة، بالرغم من التعاطف الذي قد يتم حول قضايا فردية أو عامة محقة في مضمونها، هو تثبيت فكرة إمكانية حل أية قضية مهما كانت ضمن النظام القائم نفسه، إذا ما توفر لها الدعم الشعبي المناسب، والتعاطف الرسمي من قبل العقول «الخيّرة» في البنية السياسية. هذا التأثير بالرغم من الكلام عنه بشكل عابر هو ما حصل ويحصل فعلاً ويومياً في الفضاء الفاعل للقوى النشطة على الشبكات، أو حتى في الأطر الاجتماعية كالجمعيات أو المؤسسات الاجتماعية، ودون أن نبالغ يمكن القول: إنه حاكم لعقل أغلب اليسار السياسي أيضاً، فبالرغم من وجود طرح تغيير النظام الرأسمالي لدى القوى السياسية اليسارية، فهو في الممارسة يتحول إلى تفكك يومي، وحدثي، يلاحق الحدث ليضع حوله موقفاً. مضافاً إلى ذلك أن هذا النشاط من خلال وصفه «نشاطاً» ومن يقوم به «ناشط» يعطي إرضاءً معنوياً للأهداف الكبرى والمعاني العميقة التي يحملها أي إنسان بأن يكون له تأثير في واقعه.
وهنا تتكامل الحلقة، حيث إن تجاهل أغلب القوى الجذرية لتوحيد مجمل القضايا ضمن رؤية استبدال الرأسمالية، وخطاب يطرح هذه المستويات، ومنها الجانب المعنوي، يترك هوامش كبرى لكي تتحرك فيها الرأسمالية، وتساهم بكبح التكتل الشعبي حول مسألة استبدال الرأسمالية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
907
آخر تعديل على الإثنين, 01 نيسان/أبريل 2019 13:26