التأريخ في العصر الإسلامي
سلاف محمد صالح سلاف محمد صالح

التأريخ في العصر الإسلامي

يتعرض تاريخ الإسلام إلى الهجوم الممنهج عليه، يبدأ بالتشكيك بأثره كفعل حضاري أدى دوره التام في مرحلة تاريخية محددة وكفاعل في الحضارة البشرية اللاحقة، ولا ينتهي بعزل أبنائه عنه وعن تراثهم بما يسهل السيطرة عليهم.

سنتناول في مقالنا اليوم الـتأريخ في العصور الإسلامية ودور المؤرخين الإسلاميين في عملية التأريخ كخط دفاع أساس عن حضارتهم وكإسهام حضاري عالمي، بما يساهم بالدفع بما يعلق في أذهان أجيالنا عن تاريخهم.
1
للتزوير في تاريخنا اليوم بُعدان، الأول: عالمي يمكن لحظه بصورةٍ جليةٍ في محاولة الغرب لاحتكار منشأ الحضارة برمتها وامتدادها حتى حاضر اليوم عن طريق قوته الاستعمارية، بالإضافة إلى تفوقه العلمي وسيطرته على الإعلام والثقافة والصحافة. والثاني: محلي يُعبَّر عنه بسيطرة الرأسماليات المحلية التابعة في العالم الطرفي ذاته، وبما هي امتداد لسيطرة العالم (المركزي) غير أنها تحكم ثقافياً من قاعدتها الاقتصادية المعيدة لإنتاج نفسها وفق قواعد الحفاظ على ثقافة ووعي ما قبل الدولة الوطنية، والتي تبينت بشكل واضح خلال الأزمات التي عصفت بدول المنطقة.
2
ظهر أول اهتمام المسلمين بالتأريخ مع كتابة السيرة النبوية والحديث الشريف مع تحولهم من المشافهة في نقل الرواية إلى الكتابة مع بدء تشكيل الدولة الإسلامية في العصر الأموي. ومع تعقد الحياة في العصر الأموي، تعقدت معها الاختصاصات، وأصبح التأريخ اختصاصاً بذاته يعتمد على الرواة الذين كثروا وازدادت أعدادهم. وهكذا تعددت أسباب الخطأ في التأريخ وتعددت معها أدوات التدقيق في الرواية، وهنا يبرز دور المؤرخ.
وعلى الرغم من عدم وصول معظم آثار المؤرِّخين الأوائل في العصور الإسلامية الأولى كمحمد بن إسحق الذي كتب السيرة النبوية، وأبومخنِف، غير أنه يمكن ملاحظة أنه جرى الاستناد إليها في آثار المؤرخين اللاحقين الكبار كالطبري واليعقوبي، ما يمنح آثار الأولين والآخرين الموثوقية المطلوبة.
ويميز المفكرون بين نوعين من المؤرخين في ثراثنا الإسلامي:
الأول: المؤرخ الداعية، (مؤرخ منتمٍ ينحرف عن أصول العلم حينما يكون الدعاة لفرقته أو طائفته ـ هادي العلوي).
الثاني: المؤرخ المحترف (الذي يشتغل في التاريخ ويعالج أحداثه فيكتبها وينسقها وقد يحللها ـ هادي العلوي)، والذي لا يُنفى عنه كونه إنساناًـ مؤرخ كائن اجتماعي متفاعل يمكن أن يتخذ موقفاً تجاه الأحداث دون أن تؤثر على احترافيته ومهنيته ودون تأثير على تقييم تأريخه للوقائع بشكل عام كاليعقوبي والطبري والأصفهاني وابن كثير وغيرهم. ويمكن القول: إن التزوير الحاصل في عصرنا هو أعمق وأمضى أثراً منه في الماضي.
اعتمد المؤرخون في توثيق الأحداث التاريخية عدة أولويات:
ـ تعدد الرواة الناقلين للحدث كتعدد لمصادر الحدث منعاً لانحياز راوٍ واحد لفرقته، واعتماد المقارنة والتدقيق بين الروايات.
ـ اعتمد المؤرخون على التعديل والدراسة والجرح لتدقيق رواية الرواة من حيث الأهلية الأخلاقية والفكرية، بل وتمييز الفترة العمرية التي نقل فيها الراوي الحدث. فاجتنبوا ذلك فيما يتعلق بالأحاديث الشريفة المروية من قبل الصحابة لاتصالها باعتبارات سياسية قويةـ وهو ما يشير إلى أن الصراعات كانت سياسية ذات طابع ديني، ومارسوه فيما عداهم من الرواة. وعنها ظهر تصنيف الأحاديث بين (متواتر- صحيح- حسن- ضعيف- موضوع).
ـ اتخذوا تصنيف الأحاديث الشريفة بين أحاديث أحكام، وأحاديث فضائل ومناقب، معياراً لتبيان الصحيح والموضوع منها.
ـ أما خارج العمل التأريخي، لم تكن المحفوظات والأرشفة تُنقل من خليفة إلى آخر فقط، بل من عصر خلافة إلى آخر. أما ممالك الأطراف فقد تعرضت محفوظاتها لكثير من التلف والإحراق، وقد ظهرت روايات وتوثيقات لأحداث معتمدة على محفوظاتهم في آثار المؤرخين المسلمين.
3
بلغت الأرشفة في العصر العباسي حداً من الموثوقية التي باتت تعتمد على الوثائق المكتوبة مبتعدةً عن المشافهة. ومع هذا التطور تطورت منهجية التأريخ لدى المؤرخين كعلمٍ ليتثبت على أسس موضوعية تجلت واضحة مع كتاب (البدء والتاريخ) للبلخي ـ البعض ينسبه إلى المقدسي ولعل الاثنين كتباه سوية وبالتتابع ـ، لتتوج مع ابن خلدون في مقدمته الشهيرة التي لعل أهم ما جاء فيها متعلقاً بصدقية الحدث التاريخي، هو وضعه ضمن أطر منهجية واضحة تعمل على النفاذ من ظواهر الحوادث إلى جوهرها لتنحية العوامل الشخصية والانتماءات الدينية والإثنية والتزلف إلى أصحاب السلطة، بل ضرورة الإحاطة بالظروف الموضوعية المحيطة بالحوادث بما في ذلك الحالة العمرانية المحيطة بالحدث! متحدثاً فيها كذلك عن دورانية التطور التاريخي!
نتج عن ذلك اعتماد المؤرخين المسلمين أسساً نبذت الخوارق عن الشخصيات التاريخية في منهجها لدراسة الحوادث، ونبذ الحدث المزور في التاريخ؛ فالرواية لا تصح إذا لم تصح الظروف الموضوعية المحيطة بها حتى لو تعدد رواتها، وأدى ذلك إلى تدقيق جميع الحوادث التاريخية لجهة تبيان تخديمها لجهات الصراع السياسي القائم بعد وفاة النبي، والتي شكلت الرافعة الإيديولوجية في الصراع الدامي ضد الخصوم. بالإضافة إلى مراجعة المؤرخين أنفسهم لأعمالهم السابقة ذاتها والتدقيق بها بتتابع سنيهم ومطاولتهم بالنقد لها. وما عنى اتباع ذلك المنهج من ربط التاريخ بجغرافيا المكان ذاته (ابن عساكر وتاريخ دمشق على سبيل المثال).
4
غير أن درَّة المؤرخين المسلمين، كان اعتمادهم للسنين كسياق عام للتأرخة، ظهر مع الطبري ومن بعده، وهو خروج عن تدوين التاريخ كحقبة خاصة بسلطة حاكمة معينة أو خليفة ما، وولوج إلى التاريخ من بوابته الصحيحة كعلمٍ معني بدراسة الظواهر الاجتماعية حتى المعارِضة منها للسلطة السياسية، ودراسة للظروف الاجتماعية والثقافية والعادات والتقاليد التي صاحبت كل فترة زمنية تاريخية معينة. أي: أن التأريخ لم يكن تاريخ السياسة، وإنما منعكس السياسة على الحياة الجارية في كل فترة تاريخية محددة شاملاً الثورات المعارِضة والحروب الأهلية والانتفاضات والاحتجاجات، والكوراث الطبيعية كما فعل ابن كثير، والعلم والفكر كالقفطي في أخبار الحكماء؛ إذ لم تصلنا هذه الأحداث عن غير مؤرخينا. وكانوا (أمميين- هادي العلوي) في تأريخ العلوم، فأرخوا علوم (الفرس- العرب- اليونان ت الروم- الهند- الكلدانيين- الصين). وهو وإن لم يتسم بالدقة المتاحة في أدوات البحث والمعرفة اليوم للمؤرخ الباحث المتخصص، غير أنها أعلى منهجية علمية وفلسفية تم تأريخ الأحداث فيها في حينه، ولقد تطورت لتبلغ مبلغها العالمي اليوم في حضارات أخرى تثبت أن المؤرخين الإسلاميين أدوا رسالتهم الإنسانية للعالم.

معلومات إضافية

العدد رقم:
905