التجارة الثقافية والاستغلال
مروى صعب مروى صعب

التجارة الثقافية والاستغلال

يمثل جزء من الحضارة، الهوية القومية أو الوطنية لأي شعب، الانتماء إلى الآخرين، إلى مجموعة من البشر، وقد تتحول أو تحولت في العديد من الحالات إلى فخر في التمّيز بالعادات والتقاليد أو الإنجازات. والحفاظ عليها هو جزء من الحفاظ على هذه الهوية للمكان وللشعوب، وجزء من رفع نسبة الانتماء أو التحكم بها في الظرف الحالي. مثلما يتم استغلال الحضارة في قطاع السياحة، على أنها مركز استقطاب للسواح لكي يتعرفوا على حضارات أخرى، بعض منها يعيش في عصرٍ غير عصرنا، وفي ظروف اجتماعية غير ظروفنا. أو مثلما تستغل في متاحف فرنسا وبريطانيا، على أنها تمثل التقدم الثقافي لهذه البلدان، حتى لو أن معظم إن لم يكن جميع ما هو موجود في هذه المتاحف، هي غنائم الحرب العالمية.

إنما استغلال الحضارة يختلف، في العديد من البلدان دمرت الحضارة عن قصد، أما من قبل الغرب والحروب، أو من قبل السلطات الموجودة. فبيروت خسرت طابعها الحضاري والثقافات التي تواجدت فيها عبر السنين، إلى أن أصبحت اليوم دون هوية محددة يمتزج فيها الفقر والتأثر الغربي ونمط الحياة المرتفع.
التدمير الممنهج للحضارات
العديد من الحضارات دمرت عن قصد، فهناك غياب كبير عن حضارة منطقتنا، ومغالطات عدة عن العرب وأصلهم، حتى لو أن هذا الحديث غير مهم اليوم بالمعنى العرقي، والشمول تحت أي مسمى غير صحيح تاريخياً، ولكنه لن يغير في أنّ الحضارات التي تعاقبت على المنطقة دُمرت منهجياً. إما لكي ينتقل الأساس إلى الغرب، وأوروبا تحديداً وهذا لكون الولايات المتحدة تحمل تاريخاً دموياً وعدم انسجام اجتماعي وتاريخي سمح لها بخلق هوية جديدة نسبياً وليست تاريخية بمعنى تكون الحضارة، أو تقدمها في المكان نفسه. فمثلاً تقع مسلة الأقصر في أحد شوارع باريس، وكأنها جزء من المدينة، أعطيت المسلة كهدية من قبل محمد علي باشا إلى الملك الفرنسي لويس فيليب عام 1833، مثلما سرقت آثار مصر الأخرى، أما من قبل الانتداب أو كهدايا من قبل حكام لا يملكون الحق فيها. ومثلما دمرت داعش تدمر، أو سرقت آثار العديد من البلدان وبيعت في السوق السوداء. ومثلما تعيش أقليات قبلية في بعض دول شرق آسيا في ظروف ما قبل التاريخ بحجة أنها تحافظ على ثقافتها وعاداتها. أو مثلما تحافظ إلى الآن معظم دول إفريقيا على طابعها القبلي. وتستقطب هذه الشعوب السواح لتعريفهم على هذه الحضارات، ما يشبه فئران التجارب. دعونا نعيش في شقق حضارية، نحافظ على أسلوب حياة متقدم، وقد نذهب للتعرف على العالم الآخر من وقت لآخر، من دون الانزعاج مما نشاهد، أو السؤال: لماذا قد يوافق أي شخص على العيش في هذه الظروف؟ فهو إما من عدم معرفة أن هذا تغيّر وأصبح غير مقبول بالمعنى المعيشي والاجتماعي وحتى الصحي، أو للاقتناع أنهم يحافظون على هوية قد يخسروها في حال خسروا نمط الحياة هذا. وهذه الحالة ليست بسيطة، إنما تعني الحفاظ على هذا النمط من الفقر والعيش غير اللائق عن قصد، وتدمير الهوية التي تحافظ على وحدة الشعوب عن قصد. إنما هذا السؤال يطرح سؤالاً آخر، إلى أي مدى يمكن لنا أن نحافظ على عادات ثقافية محددة؟ فالعديد يتغنى في الماضي في كيف كان أجدادنا يعيشون على أنها طريقة حياة بسيطة خالية من الجشع ومحاولات الوصول إلى المال الدائم، يزعمون أن العلاقات الاجتماعية كانت أصفى. يطبق هذا على ما يقوله بعض علماء النفس (في مقدمتهم فرويد) إن الإنسان سيء بطبيعته، فما تقدم للأجيال القادمة سمح لها بأن تمارس السيِّء فيها، وسمح لها بممارسة الجشع والمنافسة الدائمة فيما بينها. ولكن هذا لا يطبق على مجرى التاريخ، فالتغني في الماضي هو أولاً: من باب معرفة الماضي والأمان الذي يشعر به الإنسان ممّا هو معلوم، والخوف الذي يشعر به من عدم استقرار الحاضر وغموض المستقبل. هذا عند من لا يستطيع التحكم بحاضره كما يقول مصطفى حجازي، أي: عند الشعوب المقهورة. ولكن هذا التغني يسهى عن أنّ أسلوب عيش أجدادنا كان أصعب بكثير من أسلوبنا الحاضر، فيما يتعلق بأبسط الأشياء في حياتنا اليومية، السكن، التنقل، التعليم وغيرها. وأن ملايين البشر تعيش في ظروف غير إنسانية (بتعريف الظروف الإنسانية اليوم). وأننا اليوم لا يمكننا التخلي عن بعض التقدم المعيشي، والأهم، أن المشكلة ليست في التغيّر في أسلوب الحياة، بل ما دفع إلى هذا التغيّر بهذا الشكل. فالحفاظ على الثقافة يجب أن يكون من باب الحفاظ على التاريخ والقدرة على رؤية تطوره عبر السنين، لمساءلة أنفسنا: إلى أين نجري وكيف نتقدم؟ وللتعلم من هذا التاريخ لكونه متصل. ولكن الحفاظ على الحضارات بالشكل السائد من الفصل بينها وبين الحاضر وبين التقدم والتغيير هو فقط لكي يكون أسلوباً للسيطرة المعرفية والتغيرية على البشر. وهو لكي نقول: إننا تقدمنا وأصبحنا نعيش أفضل حتى مع جميع المشاكل التي نعيش، ومع كل الفقر الذي يحيط بنا وبيننا. وهو لكي يعطي للتاريخ اتصاله وطابعه التقدمي، مثلما يقبع لينين في موسكو مذكّراً التاريخ: أن لهذا النظام الرأسمالي نهاية تتحكم بها الشعوب.

معلومات إضافية

العدد رقم:
903