الإرهاق حتى الموت.. والمُتّهَم: الناس أنفسهم!
محمد المعوش محمد المعوش

الإرهاق حتى الموت.. والمُتّهَم: الناس أنفسهم!

كل الأوهام والدعاية التي تم تعميمها سابقاً عن نجاح الليبرالية، وخصوصاً في ما عرف بالدول «الناجحة» تنكشف لا في أوروبا فقط، بل في بقية النماذج في العالم أيضاً. حيث تسقط أمام واقع هذه البلدان مقولات «نموذجية الغرب» الذي يقارن فيه الطموح والمخطط لرسم تقدم بلادنا «التي عليها التعلم من الغرب»، ليس لوهم وجود العدالة والمساواة في تلك الدول فقط (طبعاً تختلف نسبياً عن دولنا كونها دولاً استعمارية أساساً لا بسبب نجاحها، ولصعود الطبقة العاملة فيها في بدايات القرن الماضي وانتزاع واقعها الحقوقي والاجتماعي الحالي) بل لوهم وكذبة أخرى، هي: أن شعوب تلك الدول تعيش بسعادة وهناء حقيقيين.

(كوريا الجنوبية) تموت إرهاقاً
يتحدث تقرير منشور على موقع الـ «سي أن أن» الشهر الماضي تحت عنوان «الكوريون الجنوبيون يدفعون أنفسهم للعمل حتى الموت، هل يمكنهم أن يستيعدوا حياتهم؟» عن اتساع ظاهرة الموت من جراء الإرهاق في العمل في كوريا الجنوبية، حيث حسب الإحصاءات الحكومية بلغ العدد المئات في العام 2017. حيث تقدر ساعات العمل الأسبوعية للكوريين الجنوبيين أكثر منها في أية دولة أخرى (ولكن أقل المكسيك) من دول منظمة التعاون والتنمية (التي تضم 36 عضواً)، و50% أكثر من ألمانيا، وأكثر من الولايات المتحدة الأميركية واليابان.
وبسبب ذلك ونتائجه الاجتماعية حسب التقرير قامت الحكومة بإقرار قانون تقليل ساعات العمل القصوى الأسبوعية من 68 ساعة أسبوعياً إلى 40، مع 12 ساعة عمل إضافي مدفوعة الأجر. حيث صرح الرئيس الكوري الجنوبي (مون جاي- إن) أن أمام كوريا الفرصة بالتحول من مجتمع “العمل الزائد” إلى مجتمع قضاء الوقت مع العائلة، واعتبر (مون) أن أهمية ذلك ستكون بتقليل حالات الوفاة الناجمة إما عن الإرهاق أو حوادث العمل الصناعية، وكذلك الموت جراء حوادث السير بسبب (النوم أثناء القيادة) بسبب التعب. وعلى الرغم من القانون المقر إلّا أن عدداً قليلاً جداً من الشركات والمؤسسات التزمت به.
المعركة من أجل التعويضات
بالرغم من عدم الإقرار الرسمي بتعويضٍ عائلي للأسرة التي تخسر معيلها بسبب الموت من الأرهاق في العمل، إلّا أن خدمة التعويضات والضمان الاجتماعي للعمال الكوريين(وهي هيئة حكومية) تقوم بالتعويض جراء الموت من النوبات القلبية والأزمات نتيجة العمل لأكثر من 60 ساعة أسبوعية على مدى ثلاثة أشهر، إلّا أنّ شروط تحقيق إثبات ذلك فيها الكثير من الصعوبات حسب التقرير، وخصوصاً أنه في الكثير من الحالات قد لا توجد سجلات دقيقة تثبت الأعمال غير المكتبية، والتي تقتضي التنقل بين المكاتب أوبين فروع الشركة مثلاً، والأهم من ذلك، هي: أعمال ما بعد الدوام (الرسمي) والتي يضطر فيها العامل أن يقوم بمهام لا يتم الإعتراف بها إلّا أنها ضرورية لإنجاز المهام في الجدول الزمني المطلوب. غياب هكذا سجلات رسمية لا يعتبر إثباتاً عن الموت جراء الإرهاق، وهي المهام التي تشكل أساس الإرهاق والضغط عمليا.
المتهم (ثقافة العمل)
حسب التقرير (المحايد) وبناء على عدة “خبراء” فإن هذا النمط من العمل الزائد لدى الكوريين الجنوبيين يعود إلى ثقافتهم التي تركز على فضيلة العمل والإنتاج، وهو للمناسبة ما يروج له في دولنا حول نشاطية هذه الشعوب التي شكلت أساس “نهضة” هذه البلاد، واتهام شعوبنا بالكسل، لذلك بقينا “متخلفين”. حيث تعود أسس هذه الثقافة حسب التقرير إلى مرحلة ما بعد الحرب الكورية تحديداً وضرورة بناء البلاد، وهو ما بقي راسخاً في وعي الشعب كتقاليد ونمط حياة. مقولة (الشعب الشغيل) يتناقض مع اعتبار كوريا الجنوبية الاقتصادي كثالث أدنى دولة إنتاجية في منظمة التعاون والتنمية.
التقرير يتناقض مع نفسه ومع الكوريين أنفسهم
بالرغم من أن عنوان التقرير بأن الكوريين هم من يدفعون أنفسهم إلى العمل حتى الموت، وبالتالي تحويل المسألة إلى مسؤولية ذاتية وثقافية في آن، إلّا أنّ جوانب التقرير تقول بعكس ذلك، أيْ: أنّ الكوريين يرفضون هذا النمط من العمل القاسي والطويل. فمن يخوض اليوم معركة تخفيض ساعات العمل حسب التقرير نفسه هي نقابات عمالية كورية جنوبية، فالسنة الماضية مثلاً وبعد حوادث انتحار عديدة لعمال البريد، جراء عدم إعطائهم إجازات مرضية بعد حوادث معينة، وإجبارهم على القدوم للعمل، حيث ترك أحد العمال رسالة قبل انتحاره يشتكي فيها من التعامل غير الإنساني معه، بينما آخر أشعل النار في نفسه داخل مكتبه، قامت نقابة عمال البريد في قطاع يعتبر الأعلى من حيث أعلى نسبة ضغط وقساوة في ظروف العمل نسبة لغيره (كالتمريض وعمال الدفاع المدني) بإضراب عن الطعام في أحد ساحات العاصمة (سيؤول) من أجل الضغط على الحكومة وإنهاء العمل بنظام الأيام الستة أسبوعياً، ومن أجل توظيف عمال إضافيين لتخفيف الضغط عن العمال الحاليين. بعد المفاوضات وافقت مؤسسة البريد على توظيف ألف عامل جديد، على أن يضم إليهم ألف آخرون في 2020.
الرأسمالية القاتلة
ليست إذاً الثقافة أو اختيار الأفراد و(حبهم للعمل الزائد) كما يحاول التقرير القول، بل هي ظروف العمل المرهقة التي فرضتها الشركات والمؤسات عملاً بمبدأ تعظيم الربح، ويتوافق ذلك مع البيانات(حسب التقرير) التي تقول: إن توسع الشركات وبالتالي ازدياد أعمالها لم يترافق مع ارتفاع التوظيف فيها، والقوانين الجديدة (تقليل ساعات العمال) وفرت حوالي 43,000 فرصة عمل جديدة!
هكذا هي إذاً النماذج الناجحة بالنسبة للدعاية الرأسمالية، التي هي معاقل للموت المادي والمعنوي.