العصافير المقليّة

العصافير المقليّة

لم أكن قد تجاوزتُ العاشرة من عمري عندما غادرتُ مدينتي وزرْتُ الضيعة لأوّل مرة في حرب حزيران عام 1967 برفقة والدي، الذي سرعان ما تركني وعاد بذات سيارة «البوسطة» التي أقلّتنا. فطبيعة عمله لا تسمح له بالغياب زمناً طويلاً. استقبلني جدّي وجدّتي بمنتهى الحفاوة. وخلال دقائق بدأتُ أتفقّد محتويات البيت الطّيني ومعالمه بانبهارٍ وحماس، وأنا أسألهما عن الأغراض والأدوات والأثاث الغريب عنّي بأشكاله وأسمائه. مبتسماً بانشداه لإجاباتهما، محاولاً عبثاً حفظها، وكأنّي أتعلّم لغة أجنبية دون تمهيدٍ أبجديّ!

لفت انتباهي على أحد الحيطان وقد عُلِّقَت عليه سلّة قصبية طويلة أسطوانية بشكلٍ مائل، وقد ظهرت من فُوَّهتها أطراف عيدان بنّية اللون. سألتُ جدّي باستغراب:
ما هذا؟!
أجاب باسماً كعادته:
هذا قنديل الدبق يا بنيّ، نصطاد بواسطته العصافير. حضّرْ حالك غداً صباحاً لأصطحبك معي إلى الجبل لأعلّمك كيف نصطاد.
لم أنم تلك الليلة إلاّ غفوات قصيرة؛ تارةً توقظني القطّة بخربشاتها وموائها، وحيناً أسمع نباح كلبٍ قريبٍ يختلط مع نباح كلابٍ بعيدة. ومرةً يجفلني عواء بنات آوى الجماعي وهن يدعونّ بعضهن بأصواتٍ أقرب إلى البكاء. بالإضافة إلى نغمات عرير الصرصور المتتابعة طوال الليل.. وسط حيرتي وتساؤلاتي التي أقضّت مضجعي ومضجع جدّي وجدّتي، والتي لم أتوقّف عن طرحها حتى سمعتُ شخيرهما.
عند أوّل الفجر استيقظتْ جدّتي وأضاءت مصباح الكاز واتجهتْ لتحلب البقرة. بعدها بدقائق تنحنح جدّي ونهض وهو يتمتم ببعض الأدعية. ثم نظر صوبي، ألفاني فاتح العينين على اتساعهما. ابتسم وقال لي:
هيّا يا بنيّ، كما وعدتك البارحة سنذهب إلى الصيد. قم لنتناول بعض الطعام.
***
تعجز الكلمات عن وصف سعادتي وأنا راكبٌ على الجَحْشة خلف جدّي متجهين إلى الغابة الحراجية على سفح الجبل. فهذه أول مرة في حياتي أتعامل مع هذا الكائن الحيواني المسالم. وبين الحين والآخر أسمع جدّي يخاطب الجحشة بكلماتٍ وعباراتٍ وكأنه يتحدّث مع إنسان.
لدى بلوغنا أطراف الغابة ترجّلنا وأنزلنا أمتعتنا القليلة وعدّة الصيد. وطفق جدّي ينصب «خلوف الدبق» كما سمّاها على أغصان الشجيرات بارتفاعات متفاوتة. شارحاً بكلمات مقتضبة أنواع الطيور التي تصل المنطقة في مثل هذا الوقت.
بعد حوالي الساعتين، عدنا لجمعِ الغلّة من العصافير. ويا لسعادتي وأنا أرى الطيور بألوانها وأشكالها وأنواعها المختلفة وهي متدلّية من أصابع أرجلها المعلّقة بالدبق. تنتفض وتخفق بأجنحتها لدى اقترابنا منها، فتزداد حالتها سوءاً من خلال ازدياد التصاقها بالدبق. وأنا لا أنفكُّ أسأل جدّي: «ما اسم هذا العصفور، وذاك، وذلك..؟» وهو يجيب ذاكراً أسماء جديدة عليّ كلّ الجِدّة: «أبو حنّ، سْقلّين، اصْفيرون، قرقفان، فشتوكة..».
المهمّ كانت الحصيلةُ سبعةً وثلاثين عصفوراً.
***
بعد مضيّ عدة أيام من التدريب اليومي، طلب منّي جدّي ذات صباح أن أقوم بإحضار العصافير المعلّقة على الدبق، وأسبقه بالعودة إلى البيت فهو سيقوم بحصاد ما تبقّى من حقله.
هرعتُ لتنفيذ المهمة وأنا في غاية الشوق واللهفة. وكم كانت سعادتي كبيرة عندما أحصيت عديدها، فقد بلغت أربعةً وعشرين عصفوراً. جمعتهم ووضعتهم تحت قميصي الداخلي دون أن أتجرّأ على ذبحهم كما كان يفعل جدّي. وعدتُ مهرولاً وأنا في منتهى الحرص لئلاّ يفرّوا منّي، بعد أن أحكمتُ إغلاق كل منافذ قميصي تاركاً «خلوف الدبق» في مواضعها.
لدى وصولي البيت، دفعتُ بابه الخشبي بكتفي وأنا أتشبّث بثيابي بكلتا يديّ خشية فرار العصافير. لفّتني العتمة بسبب وهج الشمس في الخارج والتي مازال بصري متأثراً بها. وسرعان ما فغمت أنفي رائحة العصافير المقلية التي كانت جدّتي قد قامت بتحضيرها لنا. ناديتُ على جدّتي وأنا ألهث هاتفاً:
تاتا، أنا جئت، أين أنتِ؟
لم ألمحها في البيت. خرجتُ منادياً مرةً أخرى. وإذ بصوتها يأتيني من الأعلى:
هلا يا حبيبي أنا على السطح أقوم بِتَيْبيس الكشك، أين جدّك يا بنيّ؟
لقد بقي في الحقل ليحصد القمح.
حسناً يا بنيّ. نصف ساعة وأكون عندك. لقد قليت لكما طنجرة عصافير سنتناولها فور عودة جدّك.
دخلتُ البيت مجدّداً وأنا أكاد أموت جوعاً من رائحة العصافير المقلية. ولم أستطع مقاومة استغاثات معدتي الخاوية. فما كان منّي إلا وأحضرتُ رغيفاً من الخبز وشرعتُ بالتهام العصافير اللذيذة بشراهة، كمن مضى عليه دهرٌ من الجوع، إلى أن أتيت على آخرها.
وقمت بإفراغ قميصي من العصافير الحيّة ووضعتها في الطنجرة التي كانت شقيقاتها المقليات تشغلها منذ لحظات. وقمتُ بتغطيتها واستلقيتُ متلمّظاً مذاق الوجبة الشهية.
لدى وصول جدّي سمعته يقول لجدّتي العبارة الأثيرة التي غالباً ما يردّدها عامّة الشعب: «العمر بيخلص، والشغل ما بيخلص» «تعالي اتركي من إيدك وانزلي لنتغدّى سوا». فتجيبه: «يالله جايي، غسّل وارتاح شويّة بكون إجيت».
وعند دخوله ابتسم مداعباً بحركة من يده رأسي سائلاً:
هه، قل لي، كيف كانت الحصيلة اليوم؟
أجبته وقد جفّ حلقي من الاضطراب والارتباك:
والله يا جدّي بعد أن جمعت العصافير عن الدبق لم أتجرّأ على ذبحهم. واحترت كيف سأحضرهم إلى البيت فتركتهم يطيرون..
أجاب باسماً بحنان:
ولا يهمّك يا بنيّ، غداً نعود ونصطادهم. جدّتك قالت لي قبل مغادرتنا هذا الصباح، بأنه لدينا في النمليّة كمّية لا يستهان بها من العصافير وستقوم بطبخها لنا اليوم.
واتجه نحو جرّة الماء وبدأ يغسل يديه ووجهه. ثم انتقل إلى الطنجرة وهو يدمدم بأغنية ريفية وأزاح غطاءها، ليُباغت بالعصافير وقد بدأت تلوذ بالفرار والطيران في سماء البيت؛ بعضها يرتطم بالحيطان، بالساموك، بالعنبر.. وبعضها يحطّ على تلّة الفرشات منهكاً من جرّاء حبسها. وأغلبها يفرّ من الباب المفتوح وسط زقزقات الفزع المنبعثة منها والتي كُتِبَ لها عمرٌ جديد.
وقف جدّي مبهوتاً وقد اجتاحته موجة من الذهول. رفع حاجبيه الشائكين بانتباهٍ وتجمّدت قسماته وعكست عيناه جميع صيغ الدهشة، وسمعته يقول متأتئاً بخوفٍ شديد:
«سبحان من يحيي العظام وهي رميم! لا إله إلا الله! سبحان قدرتك يا ربّ!»
تلاحقت ضربات قلبي وتلفّتُّ بذعر وقد غاص قلبي في صدري، وأنا قابعٌ في زاوية البيت على مسامير القلق متكوّرٌ على مسند القشّ كتلميذٍ مذنب، أنقّلُ نظري بين العصافير المهتاجة، وجدّي المصعوق ذي الفم الفاغر المدهوش.
لحظات وتدخل جدّتي لتشهد الفصل الأخير من هذه الأعجوبة. فيبادرها جدّي وهو ينظر بعينيه المتقافزتين إلى ما تبقّى من عصافير لمّا تهتدِ تجاه الباب بعد، وقد زهد من كل عصافير الدنيا وهتف متأوّهاً:
آخ يا أم محمد! لو حكى لي أحدٌ هذه الواقعة لقلتُ عنه أنه يكذب أو يتوهّم أو يهلْوس.. أمّا وقد جرت معي، وشهدتها بنفسي.. دخيل اسمك يا ربّي! إنها معجزة حقيقية! تخيّلي، وصلتُ إلى البيت وغسلتُ يديّ ووجهي كما قلتِ لي، واتجهتُ صوب الطنجرة وفتحتُ غطاءها لأتفقّد العصافير المقلية.. وإذ بها.. تطير!
حملقتْ عيناها في وجهه بنظرةٍ مليئة بدبابيس الشكّ دون أن تطرفا من محجريهما. ووضعتْ يديها على خاصرتيها، وبصوتٍ ينمُّ عن وعيد سألته:
رح حلّفك بالشّيخ (......) بذمّتك، بدينك بمعتقدك، ما صْليّت الدبقات عند الزيارة؟ ولك هدول عصافير الزيارة ما بجوز تصطادُن، حرام!
وضغطتْ شفتيها معاً منتظرةً جوابه.
تلقّى اتّهامها بعجبٍ ورعشة الخوف تغشاه وهو ينفض قمبازه من بقايا الريش المتطاير، صائحاً بتعثّر من يجد مشقّة في النطق:
ولك أعوذ بالله يا مره! شو مجنون أنا؟! يحرم عليّ إذا قرّبت على الزيارة. وهاي حفيدك شاهد على ما أقول!
عندما ذكرني جدّي انتبهت إليه بعنف، وكأنني أستجيب للسعة سوط. فتحجّر الكلام في حلقي. وبصعوبة شديدة واريتُ اضطرابي خشية افتضاحي. وتظاهرتُ بحاجتي الذهاب إلى الخلاء للتبوّل. وبخطوات سريعة وصلتُ إلى خلف البيت الطيني. وما برحت ابتهالات جدّي تتناهى إلى مسمعي وهو يمجّد الخالق:
«يا ربّ سترك ومغفرتك. لا إله إلاّ أنت الواحد القاهر الجبّار! فعلاً إنك تحيي العظام وهي رميم».