كيف صنعت كوبا همنغواي؟

كيف صنعت كوبا همنغواي؟

كان يوم 21/10/1492م يوم فرح وبهجة لكرستوفر كولومبوس حين وطئت أقدامه وأقدام بحارته أرض جزيرة كوبا بعد عناء رحلة طويلة وشاقة لاكتشاف العالم الجديد. لكن هذا اليوم كان يوماً مشؤوماً بالنسبة لسكان الجزيرة الأصليين، لهم ولأحفادهم وأحفاد أحفادهم. وبالفعل فبعد اكتشاف الجزيرة بحوالي تسعة عشرَ عاماً أي: عام 1511 تم استعمار كوبا من قبل الإسبان وحولت هذه الجزيرة إلى قاعدة انطلاق الأساطيل البحرية للإمبراطورية الإسبانية لغزو أمريكا الجنوبية من قبلهم وتوسيع نفوذها وثروتها.

وبعد بضعة سنوات بدأت هجمات القراصنة الأوروبيين على غنائم الإمبراطورية ونهب ثرواتها وغنائمها، وأدى ذلك لاتخاذ قرار من القائد الإسباني دييجو بيلا تكيت ببناء العديد من الحصون لحماية غنائم الإمبراطورية. وبناءً على هذا القرار جلب الإسبان الآلاف من العبيد من القارة الإفريقية، وسخروا الكثير من السكان الأصليين بالقوة لهذا الغرض. وبالفعل بعد عناء ووفاة الكثيرين منهم، تم بناء مدينة سانتياجو عام 1514م وهافانا عام 1515م. لكن هذا ما كان ليمنع تلك الهجمات وخاصةً القراصنة الفرنسيين والهولنديين. ففي عام 1655م نهبوا وسبوا قرية سانكيتي إسريتوس والعديد غيرها. ولم تكتفِ الجزيرة وشعبها بهذا الكم من الغزاة! إذ قامت المملكة البريطانية بإرسال ثلاثين ألف جنديٍّ تحملهم 27 سفينة حربية لاحتلال الجزيرة وذلك في عام 1762م. وبات الشعب الكوبي وأرضه سلعة بينهما. فزاد استياؤه من الاحتلال الإسباني أولاً والبريطاني ثانياً، لكن إسبانيا استطاعت استعادة الجزيرة بعد حوالي عام إثر اتفاقية باريس التي نصت على إعادة كوبا للإمبراطورية الإسبانية مقابل تنازلها عن فلوريدا لصالح بريطانيا.
فعلم الكوبيون أن سبيلهم الوحيد هو الثورة، فزاد نضالهم ضد الإمبراطورية الهرمة واستمر لعقود طويلة لنيل حقهم في الاستقلال.
ففي عام 1868م أعلن قائد حرب السنوات العشر (كارلوس مانويل ثيسبيديس ورفيقه ماكسيمو جونت) ثورتهم على الاحتلال لكنهم للأسف فشلوا بتحقيقها، لكن رغم فشلهم استطاعوا من بعدهم إشعال روح الثورة أكثر ضد الاحتلال. وبالفعل قرر البطل الوطني خوسيه مارتي عام 1895م قيادة حملة تحرير كوبا انطلاقاً من الأراضي الأمريكية، لكن لقلة عدد ثواره ولضعف أسلحتهم فشلوا بتحقيق هدفهم، وقتل خوسيه مارتي ليصبح رمزاً لبلاده مع استمرار ضعف الإمبراطورية الاستعمارية وعجزها عن حماية مستعمراتها البعيدة، وسطوع نجم الولايات المتحدة الأمريكية كقوة عسكرية تطمح للسيطرة على الممتلكات الإسبانية.. واتخذت من حادث تفجير باخرة لها في خليج هافانا ذريعة لها لشن الحرب عليها.
وبالفعل أعلنت الحرب عليها 1898م وهزمت الإمبراطورية العجوز أمام القوى الاستعمارية الحديثة ووقعت واشنطن معاهدة اعتراف إسبانيا بهزيمتها، وتنازلها أيضاً عن جزر الفلبين وبورتوريكو لأمريكا. ولم يخرج الجيش الأمريكي من كوبا إلا بعد إبرام معاهدة تأجير قاعدة جوانتانامو لها عام 1903م وحق التدخل العسكري لحماية مصالحها ليبدأ خلال هذا الاحتلال الاقتصادي للجزيرة، ونهب ما تبقى فيها من خيرات.
أنشأت المخابرات الأمريكية بعد هذه المعاهدة شبكة واسعة من المافيا الكوبية التابعة لها. وقامت بتحويل الجزيرة إلى الملاهي والفنادق والكازينوهات والمطاعم الفاخرة، يقودها زعماء المافيا الكوبية كغطاء لهم، مستفيدين من منع المشروبات الكحولية في أمريكا. بدأ حينها كبار الأثرياء الأمريكان والمشاهير وأصحاب الشركات الكبرى ذوو النفوذ بالتوافد إلى الجزيرة وعاثوا فيها فساداً. انتشرت شبكات الدعارة والمخدرات... إلخ مما أدى إلى شرخ اجتماعي وطبقي عميق بين شرائح الشعب الكوبي. ازدادت نسبة الفقر والقهر لدى المجتمع وبدأت البنوك الأمريكية تملأ خزائنها بالدولارات تحت غطاء الاستثمارات الاقتصادية في كوبا. لكن الواقع كان غير هذا، فتلك الأموال كانت ترسل من زعماء المافيا الكوبية والمقادين مباشرةً من المخابرات الأمريكية وأصحاب السلطة والنفوذ وتجار الظلام. وعلى صعيد آخر رأى العديد من الأمريكان سحر هذه الجزيرة ودفئها فقرروا الإقامة فيها مثل الكاتب الشهير أرنيست همنغواي الذي عاش فيها ما يقارب العشرين عاماً..
كتب فيها أروع رواياته وابتاع في منطقة فرانسيسكو بارك قرب هافانا مزرعة أطلق عليها اسم المزرعة البيضاء. تفاعل همنغواي مع الشعب الكوبي البسيط وتشرب من ثقافته اللاتينية وكان مزيجه العرقي والإثني يلهمونه رواياته التي كان أهمها وأشهرها: رواية (العجوز والبحر) وحصل على جائزة نوبل عنها عام 1954م. تحكي الرواية عن قصة صراع مرير بين صياد كوبي وعجوز مع سمكة مارلين عملاقة استمر لثلاثة أيام متواصلة عانى خلالها الاثنان وأنهكهما التعب، وربح في النهاية كل منهما!!!
فالسمكة عادت إلى حياتها الحرة وهو عاد إلى قريته منتصراً بصموده ثلاثة أيام بلياليها رغم تقدم سنه وتعبه مما أمضاه في حياته.
عالج همنغواي روايته بطريقة فلسفية عميقة... فالعجوز يريد وبإصرار أن يثبت لأهل قريته مقدرته على الصيد رغم تقدم سنه، فصراعه لم يكن مع السمكة فقط، بل كان صراعاً مع البحر وأسراره ومع الظلام الدامس والشمس الحارقة والقدر المبهم.
رغم نجاة السمكة المنهكة أيضاً وصل إلى شاطئ الأمان سعيداً مشرقاً فتقدمه في السن لم يمنع إصراره على الصمود وقوة إرادته على البقاء والسعادة ليست فقط أن تحصل على ما تريد بل تكمن بإرادتنا بحد ذاتها وفهمنا لكل ما يدور حولنا. واعترف الكاتب والفيلسوف أن الفضل بنجاح روايته هو أحد الصيادين الذين يعملون على يخته ويدعى فيونتس الذي استوحى روايته. كان همنغواي متأثراً جداً بحياة الفقراء ومن أهل الجزيرة ويخشى من اتساع عمق تلك الهاوية الاجتماعية والمادية وازدياد سوء المعيشة، ونسبة الفقر بين أفراد مجتمعه. لكن مرض الكاتب قد ازداد ولا مساعدة طبية من أصدقائه الكوبيين من حوله.
قامت الثورة الشعبية الكوبية بقيادة فيديل كاسترو الثائر الأممي تشي غيفارا عام 1959م وعاش الشعب حياة حرة ولأول مرة منذ أن وطئت أقدام كريستوفر كولومبوس أرض الجزيرة ومع هذا فلم تدع الولايات المتحدة هذا الشعب ليعيش حياته، ويعوض عن القرون السوداء التي عاشها، واضطر المجتمع الرأسمالي على فرض عقوبات جائرة بحق كوبا ومحاربتها اقتصادياً وسياسياً بشتى السبل، فساهمت بهبوط أسعار السكر الذي كان يعد السلعة الرئيسة التي كانت تصدره الجزيرة، وتدهورت السياحة وتعثر القطاع الزراعي مما أدى إلى بروز أزمة غذاء.
أما بالنسبة للكاتب الشهير فقد ترك الجزيرة عام 1961م بعد أن أهدى صديقه الصياد فيونتس يخته الثمين تقديراً لحبه لهذه الجزيرة وشعبها وبدوره تبرع فيونتس للحكومة الكوبية باليخت المسمى بيلار، ووضعوه في مزرعة همنغواي والتي باتت كمتحف ومعلم بارز لرجل مبدع أحب البلاد وشعبها وأخلص بحبه.