من الشعبوية إلى انتفاضات الشعوب

من الشعبوية إلى انتفاضات الشعوب

تعتبر الشعبوية نوعاً من الخطاب السياسي الذي يستخدم الديماغوجية ودغدغة عواطف الجماهير والاشتغال على العواطف، والحاجات الآنيّة للعامة، لدفع الرأي العام إلى مسارات محددة.

الشعبوية ظاهرة تاريخية، تسود وتخفت حسب الوضع السياسي والاقتصادي الاجتماعي، ويزداد وزنها ودورها في مراحل الأزمات الكبرى، سواء على النطاق العالمي، أو داخل كل بلد، لتترجم حالات الاحتقان والإحباط إلى ردود أفعال، تؤدي غالباً إلى الوصول لمآلات ضد الشعب نفسه. عبر روافع دينية أو قومية أو طائفية أو وطنية، سرعان ما تصطدم بحقائق الواقع الموضوعي، وعدم القدرة على تفسير الظواهر تفسيراً علمياً، وبالتالي إيجاد البرامج والأدوات والرؤى المناسبة لتجاوز المآزق التي تتنامى الشعبوية في كنفها، وشهدت منطقة الشرق كغيرها في مراحل تاريخية محددة تفشي هذه النزعة، تحت وطأة الأزمات التاريخية التي مرت بها.
يوضح الكاتب نيقولاي إيفانوف في كتابه المعنون «الفتح العثماني للأقطار العربية 1516- 1574» أسباب تقبل الأهالي للتغيرات السياسية التي أطاحت بالحكومات في كل أرجاء ما سيعرف لاحقاً بالسلطنة العثمانية، وهو ما سيكون في زمنٍ تالٍ لذلك، أحد أسباب التحركات الاجتماعية في وجه ذات الدولة العثمانية فيقول:
لقد حملت الدولة العثمانية معها شعارات شعبوية واضحة، لأن التنظيم القبلي كان يفسح المجال أمام القوى للبروز وتسلم السلطة المحلية. وقد أبقى العثمانيون الأرض لمستغليها شرط أن يقدم شاغلوها عدداً محدداً من القوى العسكرية، ويشاركوا في حروب السلطنة حيت تدعو الحاجة، ويرسلوا ضرائبهم بانتظام إلى خزانة السلطنة. وعلى عكس الدول الأوروبية في تلك المرحلة، لم تعرف السلطنة العثمانية طبقة النبلاء المعروفة في التاريخ الأوروبي، بل أوكلت مهمة السلطة المحلية إلى القوى المحاربة والقادرة على جباية الضرائب والدفاع عن الأراضي التي تسيطر عليها. واعتبرت الطوائف غير الإسلامية في ذمة العثمانيين على أساس الشرع الإسلامي. فكان شباب تلك الطوائف معفيين من الخدمة العسكرية مقابل دفع الجزية.
إن منهجية التاريخ الاجتماعي هي وحدها القادرة على تقديم صورة علمية للتركيبة الاقتصادية- والاجتماعية للسلطنة العثمانية قبيل فتح القسطنطينية. وهي التركيبة التي كانت لها آثار واضحة في صياغة النظم والقوانين العثمانية التي سادت في مختلف أرجاء السلطنة، وبدرجات متفاوتة، منذ القرن الخامس عشر حتى الحرب العالمية الأولى.
فالأيديولوجيا الشعبوية تجد بعض تفسيرها في النزعة القبلية التي ورثها الأتراك في مرحلة تحولهم التاريخي من قبيلة معزولة وسط الأناضول إلى سلطنة مترامية الأطراف. وتجسدت تلك النزعة في القبائل الغازية وفرق «الآخيات» (جمع آخي) التي تصدت بنجاح للقوى المحيطة بها في الأناضول وانتصرت عليها، وبدأت بالاستقرار الكامل في المدن والأرياف لسنوات طويلة قبل احتلالها للقسطنطينية.
وقد ظهر «التعاطف العربي والإسلامي» مع «الفتح العثماني» في مرحلة تجدد الحروب الصليبية بعد سقوط القسطنطينية.
حيث كان الفلاحون وسكان المدن يعتبرون العثمانيين حماة ومنقذين ومدافعين عن بسطاء الناس، وقد نشأ هذا الحنين إلى العثمانيين في العالم العربي وأوروبا على أساس المبالغة في تصور الكمال لدى الأنظمة العثمانية، ورأى الشعب في قدوم العثمانيين نهاية لكل الشرور والعيوب التي يعانيها المجتمع العربي الشرقي الإقطاعي.
الفتح بحد السيف
لكن نزعة الغزو والفتح بحد السيف لم تفارق تلك القبائل التركية رغم اعتناقها للإسلام واستقرارها في المدن والسهول والسواحل. وبقي الطابع العسكري، خاصة عبر الفرق الإنكشارية والفرق الخاصة وسواها، السِّمة الغالبة على السلطنة العثمانية طيلة تلك المرحلة.
يقدم ساطع الحصري في كتابه «البلاد العربية والدولة العثمانية» نماذج مهمة من الرسائل التي بعث بها سلاطين العثمانيين إلى زعماء المماليك، وبعض القيادات الدينية العربية في القرن الخامس عشر ومطلع القرن السادس عشر. وهي الرسائل التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالشعبوية العثمانية التي ساهمت في زيادة تعاطف قسم من المماليك أنفسهم إضافة إلى جماهير الفلاحين العرب مع الفاتحين العثمانيين.
ويستنتج الحصري: أن العثمانيين قد استخدموا «النزعة الدينية الشديدة» بذكاء بالغ في صفوف العرب بخاصة والمسلمين بعامة.
الشعبوية العثمانية إذاً كانت ركيزة أساسية من ركائز الأيديولوجيا السلطوية العثمانية التي استخدمها الأتراك العثمانيون ليحكموا بها العرب بشكل خاص والمسلمين بشكل عام.
مرحلة الانحدار
كما ظهرت الثورة الفرنسية الكبرى في العام 1789 ظهرت الحركات الإصلاحية في المنطقة العربية تعبيراً عن احتجاج على عدم تطبيق الشعارات التي رفعها العثمانيون في بداية حكمهم، وبعد أن عجزت السلطنة عن إكمال فتوحاتها وبدأت مرحلة الانحدار بعد وفاة السلطان سليم، بات همها ترسيخ سيطرتها على المناطق التي احتلتها، وذلك بأشد أساليب القمع والإرهاب والتقتيل الجماعي، والتهجير القسري، وكم الحريات، وتحويل الإسلام إلى طقوس وشعوذات وفرق متصوفة ودراويش.
لكن حركات الإصلاح الديني الإسلامي تبلورت على قاعدة أنماط من الإنتاج السابقة على الرأسمالية، وارتكزت إلى القبلية والعائلية والطائفية والمذهبية وسواها. وتبلورت كذلك في ظروف اشتداد الهجمة الاستعمارية الأوروبية للسيطرة على المنطقة العربية، التي خاضت سلسلة من الانتفاضات التي أجهضها التحالف العثماني- الاستعماري الغربي، بخاصة الثورة الإصلاحية الكبرى التي قام بها محمد علي في مصر، والتي كانت أهم حركة تحديث إصلاحي رأسمالي في المنطقة العربية في القرن التاسع عشر، لكنها أجهضت في المهد رغم أن آثارها ما زالت واضحة حتى الآن في المجتمع المصري.
إبدال سلطة بسلطة
هكذا تحولت الأيديولوجيا الشعبوية العثمانية إلى سلطة مركزية صارمة دفع الفلاحون الكثير من دمائهم ونتاجهم ثمن الارتباط بها، ففي مرحلة القوة استنزفت الدولة العثمانية طاقات الفلاحين والقوى المنتجة بالحروب المستمرة، وفي مرحلة الضعف والتفسخ استنزفتهم أيضاً في حروبها الداخلية وحملات التأديب وقمع العصيان، وفي الحالتين، ما قامت به الأيديولوجيا الشعبوية العثمانية أنها أبدلت السلطة الإقطاعية المملوكية أو الصفوية أو البيزنطية بسلطة طبقية من الطراز الإقطاعي نفسه مع تطوير في أساليب القمع والسخرة والبلص والمصادرة.
واليوم ومع نهايات نضوج الإمبريالية المعاصرة يبدو الحنين إلى الأيديولوجيا الشعبوية، الدينية والفلاحية ضرباً من الأوهام التي سحقها التاريخ عبر تحولاته الكبرى.