العتبة التاريخية والمشروع الثقافي البديل: أسئلة ملحّة 2 /2
محمد المعوش محمد المعوش

العتبة التاريخية والمشروع الثقافي البديل: أسئلة ملحّة 2 /2

كانت المادة السابقة حول المشروع الثقافي البديل، تمهيداً تاريخياً للنقاش حول أزمة الفكر الليبرالي، كتصور عن العالم والإنسان، وعن النقيض الممكن بلورته عملياً، وقد ورد في مقدمتها:

«ما الذي يعنيه على المستوى الثقافي، أن النموذج الرأسمالي في تناقضاته الحادة عمقاً واتساعاً، مطروح تجاوزه على جدول أعمال البشرية؟ أي: ما هو النقيض الممكن في مواجهة نموذج الليبرالية ثقافياً، والتي تشكل بنية فكرية تحكم النظرة إلى المجتمع والذات، محددة الأهداف والدوافع والمعاني، المحمولة من قبل النشاط الإنساني ككل؟ بشكل أكثر مباشرة، كيف يكون المشروع الثقافي لحركة التغيير الجذري العميق محمولاً على تصور علمي فردي_ اجتماعي، يُغني التصورات العامة عن الثقافة الوطنية والإنتاجية التقدمية، بقضايا عملانيّة ملموسة، قابلة للترجمة، من خلال الخطاب والبرنامج العلمي للتغيير؟ ليست الأسئلة بجديدة تاريخياً، ولكن الجديد هو: التاريخي الاجتماعي نفسه، الذي يجعل من الأسئلة تحمل مضامين متبلورة على ضوء التناقض المتبلور نفسه للرأسمالية، منذ أن طرحت هذه الأسئلة في شكلها العملي في سياق التجارب الاشتراكية في القرن الماضي.
إن نقد النموذج الليبرالي وأيديولوجيا الاستهلاك عامة، والفردانية الذاتية والوهم بالتحقق والسعادة، في ظل علاقات الإنتاج الرأسمالية ومفرزاتها الاجتماعية ككل، وتفكيك زيف مقولات الليبرالية الأساسية، قائم بأوسع أشكاله في الفن العلوم والعمل والصحة الجسدية_ النفسية (العقلية) والعلاقات الاجتماعية... ولكن تبقى القضية هي: تحويل مضامين النقد إلى خطوات تأسيس مشروع ثقافي، يسد فراغ انهيار الوهم الليبرالي، ويشكل حاجة اجتماعية، كأدوات في أيدي وعقول الذين يعانون من انهيار تصوراتهم وآلامهم المعنوية، أدوات تكون مادة صراعية في أيديهم لنقل المعاناة إلى ميدان العمل، وانخراطهم المنتج في عملية التغيير المادي التي وحدها هي حلّ المعنوية».
هذا المضمون التاريخي لتطور المعاناة وتداخل الحاجات المادية والمعنوية، وعلى ضوء انفجار النموذج الليبرالي مادياً، أصبح من التكثيف والشدة أن ينعكس بشكل صريح ومباشر في صلب المشروع الثقافي البديل على مستوى الخطاب والممارسة العملية.
فذوات القوى المضطهدة يجب أن تتملك أدوات فهم نفسها (كتمهيد لـ «عودة الإنسان إلى ذاته» حسب ماركس)، كون الفكر أصعب عليه أن يربط بين المعنوي والمادي كما كان سهلاً في مرحلة الاستغلال المباشر، وخصوصاً أن إرث الليبرالية يجب مواجهته، فالخطر الذي يشكله النموذج الرأسمالي على الوجود البشري ككل، في دمار الطبيعة والمجتمعات على المستوى المادي، يلاقيه دمار آخر يلحق الذات في أزمة وجودها المفرًّغ، مصطدمة بعزلتها، وإلغاء قيمتها في حالة الفردانية الاستهلاكية الاستعراضية، وخصوصاً بعد انفجار الأزمة الرأسمالية المادية فانهارت صورة المستقبل (الموهومة) في رؤوس الناس، وانهارت ذواتهم بالمقابل (حسب استعارة تعابير الباحث النفسي_ الدماغي السوفييتي أكسندر لوريا الذي كان أول من أعطى الدماغ ووظائفه بعدها الاجتماعي التاريخي بشكل ملموس ومخبري).
الدمار المعنوي محققاً
إن حدة التناقض المنفجرة داخلياً لدى كل فرد، وخصوصاً في البيئات التي تخفّ فيها الأزمات الوجودية المباشرة كالحرب العسكرية، هي نتاج تناقض بين حاجة ذاته للاعتراف بها اجتماعياً، وبقيمتها من جهة، وبين صورته المشوهة عن العالم، وعن نفسه من جهة، وكيفية تحقيق وتحصيل الاعتراف والقيمة بالشكل الفرداني الليبرالي، فالليبرالية لها جانب عملاني في الممارسة، وليست بالضرورة تهمة سياسية لحاملها، حتى لا يكون القصد هنا اتهاماً ما، فالوجود الفردي يتناقض بين تصورات حقيقية تصارع التصورات الفردانية الموهومة، التي لها الغلبة في مجتمع الحرب الإعلامية الإعلانية الثقافية اليومية، ومنذ ثلاثة عقود «حامية ثقافياً».
هذا الانفجار ولد ألماً معنوياً ونفسياً وعزلةً واكتئاباً وخوفاً وهروباً وتطرفاً وتفككاً وعدميةً وتخلياً... فكانت سوق العقاقير الدوائية وإمبراطوريات بعض «المعالجين النفسانيين» الدجّالين، وتيارات ومدارس الفكر المثالي كاليوغا والتأمل والطاقة الإيجابية.. التي ما أكثر انتشارها اليوم، وخصوصاً بين فئة الشباب.
معالم أولية للمشروع الثقافي البديل وأسئلة ملحّة
إذا كان الواقع المأزوم هو أصل كل المعاناة المادية والمعنوية، فإن تجاوزه ضروري، ولكن على القوى المتضررة أن تحمل نفسها هذه الحقيقة في ربط أزمتها الوجودية بعملية التغيير، فاستعادة الدور الاجتماعي المنتج وما يمكن للفرد أن يشكله بالنسبة لمجتمعه، ولنفسه هو مدخل لاستعادة القيمة، التي هي انعكاس لأهمية هذا الدور. ليس دوراً عبثياً معزولاً بل دوراً شاملاً كل الاجتماعي في أزمته ككل، التي هي تركيز لكل «الأزمات الخاصة» اليومية، فاليوم إن أي دور منتج يتمحور أولاً: في الحفاظ على المجتمع من جهة وأهمية ذلك للمجموع الإنساني ككل، وثانياً: في المساهمة بالنهوض الملموس بالمجتمع علمياً وفنياً واقتصادياً وتعليمياً... فكما كانت القوى المتضررة، قد رفضت الاستعمار والاحتلال عن وعي، لكونه تدميرياً للشعوب، وكما رفضت عن وعي سلطة الطبقات الناهبة والمستغلة... فإن رفض تغييب الدور وعلاقته بالقيمة بالفردية يجب أن يستند إلى خطاب واعٍ يكون خارطة الطريق للتحرر المعنوي، كما أن رفض الاستغلال الاقتصادي هو خارطة طريق للتحرر المادي، والأخير هو معبر الأول، ومتداخل جدلياً معه. فمجتمع الإنتاج الاجتماعي تهمه إنتاجية كل فرد ومساهمته، وهذا يشكل القاعدة المادية للتحرر المعنوي بأشكاله المختلفة.
إخراج ما هو ضمني إلى العلن
ما سبق هو تفكير بصوت مرتفع، لما يمكن أن يشكل منطلقاً لصياغة مشروع ثقافي ملموس، يظهر النقاط لكي تكون في متناول القوى المتضررة، وإظهار الربط المباشر بين عملية التغيير المادية الاقتصادية، والمشاركة فيها، التي هي بالضرورة مدخلاً وطريقاً للتحرر المادي_ المعنوي. فإن تستعيد المبادرة قوى طليعة التغيير الجذري، يعني: أن تكثف في خطابها كل المعاناة بشكل صريح لا ضمني فقط، وخصوصاً أن هذا الضمني اليوم هو في حالة معركة عليه من العدو المتراجع طبقياً، الذي يستغل موروثه الثقافي لتأجيل التراجع، ولكي يعزل القوى الاجتماعية عن عملية التغيير. نحو أوسع تمثيل وأعمق طرح يطال التناقضات كلها، ويقدم التصور لحلّها عملياً.
فمرحلة عودة الإنسان إلى ذاته تاريخياً، هي من الغنى ولا تكفي معها العفوية في عملية العودة تلك.