المُسَلّي

المُسَلّي

لطالما قرأت بالجرائد الإعلانية عن حاجة بعض الأُسر الثريّة إلى مُسلّي عجائز. وبقيَتْ هذه «المهنة» لغزاً محيّراً بالنسبة لي، كونها غير مألوفة في مجتمعنا. وكنت أتساءل دائماً: تُرى، ما هي المواصفات والقدرات التي يجب أن يتحلّى بها المسلّي؟ ما هي الحكايا والنوادر التي يرويها، والألعاب والحركات التي يقوم بها لتسلية العجائز؟ وغيرها الكثير من الأسئلة، إلى أن التقيت مؤخراً وجهاً لوجه مع أحد المسلّين مصادفةً، وأنا أتجه بالسرفيس من موقف كراج جسر الرئيس في دمشق إلى دمّر.

 

قبل أن يقلع السرفيس بلحظات، قفز إلى داخله برشاقة رجلُ أربعيني وجلس إلى جانبي. لفت انتباهي جمال وجهه الذي يضجّ بالعافية، وسكسوكته البيضاء المشذّبة بعناية، والمنسجمة مع أسنانه الناصعة. بالإضافة إلى السماحة التي تشعّ من عينيه السوداوين، والتي أضفت على محيّاه مزيداً من الارتياح لكل ناظر.
ما إن انطلق السرفيس حتى التفت صوبي والبسمة تشرق على وجهه وكأنه وصل لتوّه إلى الجنة وسألني: «أكيد أستاذ، أنت إمّا محامٍ أو طبيب؟» بادلته الابتسامة وأجبته بهدوء: «خيراً؟ هل يمكنني تقديم مساعدة؟»
قال لي باعتزاز: «لا، كل ما في الأمر أنني أختبر فراستي بين الحين والآخر..» وأضاف متسائلاً بدفء: «لمْ تجبْني؟»
قلت له: «يمكنك أن تثق بفراستك، فأنا (حقوقي) لكنني لم أزاول مهنة المحاماة».
اغتبط لجوابي وأضاءت وجهه بسمة ساحرة وسألني: «طيب، هل يمكنك معرفة ماذا أعمل؟»
رنوتُ إليه، يا إلهي، ما هذا الرجل! كيف يستطيع أن يكون بهذه العفوية الصادقة، ويتحدث بهذه الأريحية، دون أيّ اعتبار للقيود الصارمة التي زرعتها أعراف المجتمع في نسيجنا الثقافي التربوي لسنين طويلة؟!
أطرقتُ قليلاً أفكّر، ثم نظرتُ إليه مجدّداً متمعّناً، أحشد كل طاقاتي، إلا أنني لم أستطع الوصول إلى أيّ احتمال! قلت له: « الحقيقة أنني لا أملك موهبة الفراسة التي تتحلّى بها.. باختصار: عجزت!»
قال لي بفرح: «أنا أعمل مسلّي عجائز. إن المواهب التي حباني الله تعالى بها جعلتني محبوباً ومرغوباً من قِبل «الوسط المخملي»، كما يحلو لكم أنتم المثقفون وصف الطبقة الغنية في المجتمع؛ فأنا أجيد العزف والغناء والتقليد.. بالمناسبة، المرحوم رفيق سبيعي (أبو صيّاح) قريبي. وقد اقترح عليّ مرّات ومرّات المشاركة معه بالمسلسلات التلفزيونية، لكنني رفضتُ».
سألته، وأنا في ذروة الإعجاب والغرابة من قدرته الفائقة بمحو كل الحواجز مع الناس ليتحدّث بكل هذه التلقائية: «طالما أنك تجيد فنّ التمثيل، وأتتكَ فرصة من ممثّل مخضرم كرفيق سبيعي.. لماذا لم تستغلّ هذه الفرصة؟»
ضحك واختصر إجابته بالقول: «أنا متديّن يا أستاذ، لا أشرب، لا أدخّن، لا أرتكب المعاصي.. وكل هذه الموبقات للأسف موجودة في عالم الفنّ. لقد اكتفيتُ ببعض الأُسرِ الذين يقدّرون مواهبي، وأتقاضى منهم أجوراً مجزية لقاء قيامي بتسلية عجائزهم. بالمناسبة، هل لديك خبرة بالمقامات الموسيقية؟»
أجبته: «الحقيقة أن ثقافتي الموسيقية متواضعة».
قال لي مهوّناً: «وأنا أيضاً أمّي بالنّوتة الموسيقية. لكنني أعزف بشكلٍ سماعي كل المقامات.. (وأردف معتدّاً بذاته) أصلاً كبار الموسيقيين كانوا أمّيين بالنّوتة. أمثال: (فيلمون وهبي، ملحم بركات، رياض السنباطي، القصبجي..) مع أنهم عمالقة وقدّموا أعظم الألحان. اسمع هذا المقام (نهاوند) إن له طابعاً رقيقاً عذباً يناسب الألحان العاطفية الحزينة، وأيضاً له طابعاً طربياً فرحاً.. مثلاً أغنية (أعطني الناي وغنّي) لفيروز، اسمع كيف سأعزفها لك.»
وطفق يغرّد بفمه ولسانه مقلّداً العزف على العود بمنتهى الإبداع والبراعة.
وما إن ينتهي من مقام موسيقي، حتى يتبعه بمقام آخر معرّفاً عنه بأغنية وسط ذهولي وذهول الركاب.
فجأةً توقّف عن العزف وقال لي: «سأنزل عند مفرق (مشروع دمّر) أي: أنه لم يتبقَّ لي سوى القليل معك. سأقلّد لك دريد لحام بشخصيته المحبّبة (غوار الطوشة)». وما إن انتهى من وصلته حتى قلّد (ياسر العظمة) وبعدها (عادل إمام). وأثناء تقليده للفنان الأخير طلب مني أن أنظر إليه، لأن حركات وتعابير وجه عادل إمام تعتبر معجزة في عالم الكوميديا. وطفق يصعّر خدّه ويزرّ عينيه ويكشّر عن أسنانه ويزمّ أنفه.. لدرجة لم يبقَ أحد من الركاب القريبين منه إلا وغاص بنوبة ضحك..
لدى وصول السرفيس إلى المكان الذي سينزل فيه صاحبي، قلت له: «سُررت كثيراً بالتعرّف عليك، وأتمنى أن نلتقي في قادمات الأيام». ربّتَ على ركبتي متودّداً وأجاب: «جمالية الشيء ألا يتكرر. ثم إننا لم نتعرّف على بعض؛ فأنا أجهل اسمك، مهنتك، أسرتك.. وأنت لم تعرف عنيّ شيئاً؛ لا اسمي ولا أسرتي، ولا الشهادة العلمية التي أحملها، ولا العائلات التي أعمل لديها، ولا الأجور التي أتقاضاها.. ذلك كله لا يهمّ وغير ضروري. لقاؤنا العابر هذا سيبقى طويلاً في الذاكرة. لقد مارستُ هوايتي في التعبير عمّا يجول في خاطري وأعتقد أنني أسعدتك، دون احتساب لآداب الركوب المنافقة في الحافلات. فلْنكن دائماً هكذا واضحين شفّافين بشرط ألاّ نؤذي أحداً.» والتفت نحو السائق هاتفاً: «زكاتك، نزّلنا».
توقّف السرفيس، وبذات الخفّة والرشاقة التي صعد بها، نزل صاحبنا ذو المزاج البهيج والبسمة لا تفارق وجهه.
فجأةً أحسستُ بوحشة المكان. تمنّيتُ أن ألحق به، أن أمسك بتلابيبه، أن أعرّفه عن كل شيء بشخصيتي، وأستنطقه لمعرفة ما أريد عن شخصيته الاستثنائية النادرة.. والأهمّ من هذا وذاك أن أكسبه صديقاً.
لكن سرعان ما استأنف السرفيس رحلته، ولم أتمكّن من تحقيق أيﱟ من أمنياتي، سوى تلويحة من يدي إلى هذا الشخص الذي بقي واقفاً حريصاً على تلقّي تلويحة الوداع.