مقطع من سمفونية الكمنجات الكردية

مقطع من سمفونية الكمنجات الكردية

في أوائل عشرينيات القرن الماضي، وصل مع أول فصل الصيف، الرَّحالة والصحفي النمساوي (ليوبود فايس) إلى جبال كردستان في طريقه إلى إيران، ومن ثمَّ متجهاً إلى أفغانستان. كان شاباً يافعاً في تلك الأيام، فقد ولد في إحدى المقاطعات النمساوية عام 1900، وها هو يروي لنا بلغة حيَّة موحية مغامراته، ومشاهداته ضمن كتاب حكى فيه سيرة حياته، ألّفه عام 1952، وصدرت ترجمته العربية عن دار الجمل في ألمانيا عام 2010 في أزيد من خمس مئة صفحة، تحت اسم الطريق إلى مكة. وقد شكَّلت مطالعته متعة حقيقية لي لما فيه من صدق ونزاهة وجرأة.

1
في باكورة الفجر، بدأت قافلة العربات والبغال والمشاة في التحرك باتجاه جبال كردستان، الطريق صاعداً نحو أرض الرعاة الشقر طوال القامة، وصلت القافلة في الضُحى إلى قرية كردية من الخيام، تقع بين سفوح تلال خضراء، الخيام مصنوعة من شعر الماعز تُشدُّ بأطناب متينة على أعمدة من خشب أشجار قوية، جوانب الخيام صُنعت من قشِّ مجدول، جداول الماء تتدفق على مقربة من الخيام، تجمعت على حواف الماء طيور بيضاء، وحطتْ على صخرة في وسط الماء مجموعة من طيور اللقلق تنقر أجنحتها بمتعة، رجل يرتدي سترة يميل لونها إلى الأزرق الدمشقي يتجه في خطوات حثيثة نحو الخيام، امرأة تحمل جرة فخار على كتفها تدنو من الماء بثوبها الأحمر الفضفاض الطويل، يشفُّ الثوب عن سيقان طويلة مشدودة مثل أوتار الكمان، حين وصلتْ الماء مال غطاء رأسها الأحمر فمسَّ طرفه الماء وكأنه تيار من الدِّماء ينسكب في الماء الجاري.
جلستْ على حافة الجدول بصحبة رجل عجوز أربع فتيات في شرخ الشباب تُشبه صفّ كمنجات في فرقة سمفونية، كلّهنَّ ظريفات الجمال، فيهنَّ ذلك السحر الخاص، طبيعيات بلا افتعال نتيجة حياتهم الحرة بين أحضان الطبيعة. كان جمالهن من ذلك النوع الذي يعتدُّ بذاته إلا أنه عفيف وطاهر، فَخَارٌ واعتدادٌ لا يُدارينه، ولكنك تُدركه من الخجل والتواضع الذي يغلب عليه. كانت أجملهنَّ ذات اسم موسيقي رنان «شيرين» جبهتها مغطاة حتى حاجبها الرقيق بوشاح أحمر وجفناها مصبوغان، من تحت الوشاح تدلت من أُذنيها سلاسل فضّية رقيقة، في كل لفتة من رأسها كانت السلاسل تُصدر صوتاً معدنياً رقيقاً يتناغم مع خرير ماء الجدول.
2
استمتع الجميع بالحوار الذي تبادلوه بالرغم من عائق اللغة وندرة المفردات المفهومة، إلا أنها أدت غرضها بكفاءة عالية، كُنَّ نساء فطريات لم يذهبن أبداً خارج نطاق قبيلتهن، وكُنَّ يفهمن بسهولة ما يُراد قوله، وغالباً ما كُنَّ يجدن الكلمة التي تتعثَّر في النُطق. سألهم الرَّحالة النمساوي عن حياتهم وما يقمن به من أعمال، أجبن:
نطحن الغلال بالرحى، نخبز الخبز في التنور، على جمرات وقيد الجبال، نحلب الماعز، نخضّ اللبن في قُرب من جلد الماعز من أجل استخراج الزبدة، نغزل بمغازل يدوية صوف الأغنام، وننسج الأبسطة والسجاجيد الفريدة النادرة الثمينة، التي لن ترى ما يُشبهها في أنحاء العالم كلها، ونحبل ونلد أطفالاً، ونهب الراحة والحب لأزواجنا. وفي الشتاء مع اشتداد البرد وهطول الثلج وندرة الكلأ والعشب على سفوح الجبال، ننتقل مع خيامنا وقطعان مواشينا إلى السهول الأكثر دفئاً، إلى ما بين النهرين بالقرب من نهر دجلة، وحين يعود الدفء تدريجياً مُعلناً قدوم الصيف برطوبته وهوائه اللافح في السهوب، نعود إلى جبال كردستان، إما إلى الموضع ذاته، وإما إلى موضع غيره في منطقة القبيلة.
يقول ليوبود فايس، سألتُ الرجل العجوز: ألم ترغب العيش في منزل من الحجر، وأن تملك قطعة أرض تفلحها؟ هزَّ الرجل العجوز رأسه ببطء، ثمَّ قال على مهل: كلّا، إذا توقفت المياه بلا حركة في البركة، فاعلم أنها ستفسد وتتعكر وتتعفن في النهاية، أما حين تكون متحركة ومتدفقة فإنها تظلُّ نظيفة ونقية.