«وحوش العلوم»: «راجح» الكذبة في زمن الأزمة
محمد المعوش محمد المعوش

«وحوش العلوم»: «راجح» الكذبة في زمن الأزمة

كما صار واضحاً ومتبلوراً، أن للمرحلة التاريخية الراهنة تميزاً نوعياً في تاريخ المجتمع، وفي وصول النظام الرأسمالي إلى حدوده التاريخية، في أزمته العميقة والشاملة، وذلك يحتّم أن ممارسته الأيديولوجية ستنعكس بشكل نوعي متميز تاريخي، ارتباطا بتميز البنية الاقتصادية_ السياسية نفسها.

وانطلاقاً من المضامين الرجعية التي تحملها الممارسة الأيديولوجية الرأسمالية، في التعمية على الواقع، وتشويه الحقيقة، والتي تتوضوح أكثر مع كل تفاقم لتناقضات الرأسمالية، وذلك في محاولة لإخفاء الحقيقة التي يهتز أمامها العالم الرأسمالي خوفاً: الرأسمالية ليست مصير البشرية النهائي، وهي تحمل في تناقضاتها أسباب زوالها، والسبيل الوحيد للحفاظ على المجتمع والبشرية ككل، هو في تجاوزها نحو اشتراكية تفتح أفق التطور الإنساني الشامل، وإرضاء حاجات البشر المادية والمعنوية؛ فإن كل نضوج للظروف التي تلامس اتضاح هذه الحقيقة، أمام البشرية، فإن الرأسمالية تجنّد كل وسائلها للتعمية والتشويه، ولتظهر الأزمة على غير ما هي عليه حقيقة. هذا ما تظهّر في أثناء التجارب الاشتراكية، وخصوصاً الاتحاد السوفييتي، فصارت الشيوعية هي عدوة البشرية ككل، وظهر أيضاً في اختلاق أسباب للأزمة الاجتماعية، كزيادة عدد السكان، أو في الاحتباس الحراري كظاهرة «طبيعية» تعيشها الأرض حسب دورات طبيعية في تاريخها، ولا علاقة للنظام الاجتماعي بذلك. إلى غير ذلك من ظواهر تلعب دور «راجح» في مسرحية «بياع الخواتم» للرحابنة والسيدة فيروز. «راجح» الشخصية المختلقة لإخافة أهل الضيعة، من أجل إبقاء سلطة ما عليهم، وإلهائهم عبر تخويفم من «العدو» الوهمي.
ممارسة قديمة في واقع جديد
هذه الممارسة التعمويّة المتكررة، تقترن اليوم بما صار واضحاً: العجز السياسي والعسكري للإمبريالية في تخطي الأزمة الراهنة، وذلك بسبب وجود توازنٍ دولي صاعد في وجه الإمبريالية، متمثلاً بروسيا والصين تحديداً. وهذا ما يضخم وزن الممارسة الأيديولوجية للتشويش، كمحاولة للإلهاء والتشويه علّ ذلك، ويطيل الأزمة ما أمكن، وذلك في اختلاق واقع وهمي يحوّل عدو البشرية من الرأسمالية إلى «راجح» جديد، فربما ينفع ذلك الرأسمالية وأدواتها في إقناع التاريخ بأن يصير تاريخاً آخر، وهذا هو الفكر الأسطوري الخيالي المضحك بعينه.
«راجح» وشيطنة العلوم
«راجح» يظهر سياسياً عبر شيطنة الدول الصاعدة، وأيضاً أبرز ما يكون في موجة شيطنة التكنولوجيا، إلى حد شيطنة العلوم ككل.
آلاف المواد المنشورة تقول: إن التنكولوجيا اليوم بشكلها «الذكي» هي خطر وجودي على الإنسانية. وهي لن تسرق الوظائف من الناس فقط، بل ستقضي على البشرية، عبر إبادة الملايين واحتلال العالم! أليست هذه صفات الإمبريالية؟! يبدو أنه صار هناك إمبرايالية جديدة هي «إمبريالية الذكاء الاصطناعي»!
مقال في مجلة «علوم» العالمية إياها، في كانون الثاني الماضي، فيه تكثيف لما سبق أعلاه، وتكرار للفكرة ذاتها، حول خطر العلوم والتكنولوجيا الذكية تحديداً، بعنوان «ترويض وحوش الغد»، وفيه أن العلم الحديث عامة سيشكل تهديداً للبشرية: إما علوم الطبيعة والأوبئة: وهي تطوير الفيروسات القاتلة للملايين، والتي يمكن أن تخرج عن سيطرة المختبرات والباحثين، وإما العلوم العسكرية والأسلحة الفتاكة، كما حصل مع القنبلة النووية، أو من خلال التلاعب بالطبيعة واختلال التوازن فيها. ولكن الأخطر حسب المقال هو: الذكاء الاصطناعي الذي سيقدر ربما على تطوير أجسام مجهرية للسيطرة على كل متر مربع من الكرة الأرضية، أو ربما تدمير اقتصادات الحكومات، أو إبادة البشرية ككل عبر أسلحة صغيرة تنشر عالمياً.
الجانب العملاني من الدعاية
لهذه الغاية يطرح «الفيسلوف نيك بوستروم» (جامعة أوكسفورد، المملكة المتحدة)، إضافة إلى «فيلسوف» آخر هو «هوو برايس» (جامعة كابريدج، المملكة المتحدة) إمكانية مواجهة هذا الخطر، وذلك من خلال الهيئة التي تم تشكيلها من عدة باحثين وعلماء وفلاسفة (بالمناسبة، كل من قدّم فكرتين مترابطتين لخدمة الرأسمالية يصير فيلسوفاً؟) تحت اسم «مركز دراسات الخطر الوجودي»، والتي تضم في هيأتها الاستشارية العلمية الفيزيائي_ الفلكي «ستيفن هوكينغ» (هكذا مشروع يتطلب تجنيد أصوات «مسموعة» كما هوكينغ). مع أن المقال ذكر وبشكل هامشي، أن هناك آراءً علمية أخرى ترى الخطر في الحرب النووية مثلا، بدلاً من «فنتازيا» خطر التكنولوجيا الذكية، كالباحثة «جويس توايت» في معهد إنّوجين في اندنبرغ (تكساس، الولايات المتحدة)، والنفساني في جامعة هارفرد (الولايات المتحدة) «ستيفن بينكر»، ولكنه يبقى متن المقال كله، لأصحاب رأي الخطر الوجودي ، الذين يقولون: إن أفكار الخيال العلمي مطلوبة للتنبيه من المخاطر الممكنة وليست غير صحيحة.
الخيال والأسطورة إلى حد المهزلة
يقول الباحث علي الشوك في كتابه «تأملات في الفيزياء الحديثة» (دار الفارابي،2012): إن العلم الرسمي اليوم، والفيزياء الكونية خصوصاً، عادت بنا إلى أجواء محاكم التفتيش في القرون الوسطى، وإلى النظريات الغيبية والمثالية الأسطورية، لاغية كل فكر نقدي وضاربة أصول المنهجية العلمية برمتها، وخصوصاً فكرة السببية.
هكذا نرى في المقال وفكرته المتكررة حد التضخم، أن فكر الرأسمالية اليوم في ظل الأزمة، وبنتيجة شمول وعمق التناقض، يصير فكراً أسطورياً وخيالياً، لكي يحقق وظيفته الأيديولوجية: التعمية، التي لكي تتحقق يجب أن تلغي كل ما يحصل، أي: إلغاء الواقع كلّه، فينتقل بنا العلم والفكر الرّسمي وكل أبواقه إلى عالم الغيب، حيث لا يمكن لنا فيه أن نقول: إن الرأسمالية في أزمة ويجب تجاوزها. إنها مرحلة الفكر الأسطوري والخيالي الكاذب، ولكنه يعيد نفسه اليوم على شكل مهزلة على حد تعبير ماركس.
كما في «بياع الخواتم» حيث يظهر «راجح» الحقيقي لاحقاً، كناشر للحب وجالب السعادة، لا ككذبة ووهم مختلق لتخويف أهل الضيعة، ففي العالم الحقيقي كذلك، إن توظيف العلوم والنظام الإمبريالي الذي تخدم هي الخطر الحقيقي، لا العلوم بذاتها التي هي أداة إنتاج مادي باتجاه التطور الاجتماعي.

آخر تعديل على الإثنين, 26 شباط/فبراير 2018 13:44