غادة اليوسف غادة اليوسف

خواطر يساريّة

ماذا يعني أن تكون يسارياً اليوم؟! سؤالٌ رماه تسابقُ اللاعبين بضربة (دبلكيك) فأصاب الهدف، وهزّ شباكي النائمة فاستيقظتْ على وخزة الألم، إذاً، ثمة بقية من رمق، وقد صبّتْ على الوعي الهاجع شهقةً، باغتتْ الكسلَ الذهني وهو ينسج كفن انتحارنا الجماعي، وذلك، لغفلةٍ، ما كان لها أن تستمر كل هذا الزمن لولا أن الإحباط، والإحساس باللا جدوى، المتأتي من الحيّز الضيّق الذي أعاق الحركة، والسقف الواطئ الذي أغلق منافذ الضوء والصحو. هل هي دعوة لأصحو بعد تنويم، وأنطق بعد تكميم؟ أدْخلَني السؤالُ في تموّجات الماضي والحاضر.

إذاً، لابد من أن أراجع، وأحلّل، وأكشف ذاتي، وأبحث عن الجواب الذي يجلو الحقائق التي تداخلت، وانطمستْ، أن أعيد اكتشاف الحيثيات التي تصنع الجواب، أو، أعيد اكتشاف خطاب يقرّ بالحقيقة المحتجبة، هذا إذا صدق العزم على الانخراط في مغامرة الجواب، إنها دعوة للحوار، لمراجعة وتوصيف ما كان، وتحليله على ضوء النتائج الحاضرة، لتأسيس بناء جديد، وسط فضاء أرحب، تتدفّق فيه مشاريع كثيرة.. إذ لابدّ من الحوار، الذي هو دليل على حيوية الناس والمجتمع، وعلامة على تفاعل أنساقه، وسبيلٌ لكشف تناقضاته. وهو عودة الثقة في قدرة الإنسان على صنع مصيره، وتوسيع دوره في الكون، الإنسان المعافى من العصبيات العنصرية والطائفية التي هدرت من دماء البشرية، وارتكبت من الفظاعات ما يفوق كوارث الكون قاطبة. إنها دعوة للحوار، على أن يكون المتحاورون نموذجاً للعزيمة الفكرية والوعي حين يجدّد نفسه بنفسه، بالرغم من القضبان التي يُزَجُّ خلفها، حيث أن لا قوة في العالم تميتُ الرأي الحر.
ولكن السؤال مازال برسم ذوي الرؤوس المشتعلة شيباً، المحظوظين برغم آلامهم، بأنهم عاشوا في الزمن الذي كان كل شيء فيه يتحرك من خلال القضايا الإنسانية الكبرى.
ترفرف عصافير القلب بجنح السؤال، وتطير دون خوفٍ وراء الحلم، تجوب سماء الكون الملبّدة، لتسحب خيوط الشمس إلى أيكة الحقل التي ذبلت، بينما تتمرّغ الأرض في حمأة البؤس والشقاء. إن الروح ما تزال تنبض فيهم، غير أنهم، وبرؤوسهم المشتعلة، وجباههم المُخَدّدة بمنسم الانهيارات، ينادون في قلب النفق لمن يحمل المصباح، ويعبر عتبة الوعي الجديد، فيجيبهم رجع أصواتهم.

تصادتْ مراجعات المشهد اليساري على مساحات العقود الماضية، وتداخلتْ، في محاولة قراءة فصيحة للراهن، وقد تميزتْ في أن معظمها تشترك في نبرة رثائية لمناخ مرحلة كانت، ويجمعها الإحساس بالخسارة، وقد عبّرتْ جميعها بالرغم من القلق والارتباك عن رغبة مُلحّة وصادقة في رسم صورة واضحةٍ لما مضى، وربما محاولة استشراف ما سيأتي، فما هي أسباب هذه النزعة الرثائية وهذا الارتباك؟! فهل ذَبلَ دور المفكّر والباحث الفذ؟ وهل هي مؤشّر على عملية تحوّل كبرى تحدث بسرعة الضوء، تجاوزتْ بداياتِها؟ يبدو أن التحول يجري بالتأكيد، بمعنى أن عوالم ثقافية جديدة تتخلّق، أصبح فيها الباحث والمفكر يُصَنّع من  مؤسسات الصناعة السياسية الجبارة، في عملية إنتاجٍ، و تسويق ثقافي معقّدة، تتقاطع فيها مصالح شياطين السلطة والمال.

في هذا العالم المُصَنّع أمسى مصطلح اليسار فولوكلورياً.
إن قلق المراجعات عبّر عن الإحساس بتحوّلات نوعية استثارت شهية السؤال لإطلاق أحكام وتعميمات يجمعها كلها الشعور العارم بالتلاشي. بل إنها بالتأكيد مؤشر اضطراب أمام ظواهر وتحولات فرضها الواقع على الحياة في مختلف أنحاء العالم. فهل بقي لنا أن نتنبأ، والواقع يثبت دائماً أنه أكثر تعقيداً وغنى من النبوءات؟!
لقد تغيّر المشهد الإنساني، وبات يستلزم طرحاً جديداً، فهنالك انقلاب في القيم الإنسانية، وانقلاب في المرجعيات، واضطراب في سُلم الأولويات، وخرجت السياسة والمعرفة والمال من عصر البطولة الفردية إلى عصر البطولة الجماعية، مما أجج الصراع على البقاء، وانفجرت حرب الهويات، واستشرت ظاهرة الإرهاب والإرهاب المضاد، بما في ذلك التقلبات الكارثية في دنيا المال. ولا ننسى أن ما آلت إليه الروابط في المجتمع الإنساني قد دفعت إلى انبعاث المرجع الروحي (عودة المقدس) يزيد في توتّره الانحيازُ لنسبية المصالح سياسياً من جانب، ومن جانب آخر الشطط في التنظير الفلسفي الحداثوي، الذي يُعلي حرية الفرد بذاته والذي يقول: بأن حرية الإنسان لا تكتمل إلا إذا قضى على كل المؤسسات القهرية المتمثلة بالدين والأسرة والدولة والثقافة السائدة واللغة الموروثة، مما استثار المرجع الغيبي ليظهر بكل تَوتّرهِ، وغرائزيته، على شكل انبعاث لمللٍ ونِحَل متشظيةٍ، لا يجمعها غيرُ رفضها للمجتمع الإنساني الجديد، في تحالفات عقدية تؤجج الحياة في المقدّس العتيق. فالدنيا أمستْ غير الدنيا والناس غير الناس.

في السؤال إغواء، يحرّضه الوعيُ الجريح بتحريك الراكد، وكشف المسكوت عنه، يشعله أنينُ الحلم الموءود الذي تربّى عليه جيل كامل، والجواب مبثوث بين ما يجري الآن، وما جرى في الماضي، مزروع في الرمال المتحركة للذاكرة السياسية، يثوي بين حقيقة تاريخية مضت، وحقيقة تريد أن تبزغ، فلنُعِدْ طرح السؤال القديم، الجديد، الحائر إيّاه: (ما العمل؟)!، وبأي معيار يتمّ التواصل والتداول بين المتحاورين، وكيف يصل إلى الجمهور؟ ونحن نقف الآن في أخدود الحالة اليسارية القائمة، نرنو إلى سماء الحالة اليسارية المنشودة؟ ونحن محكومون بزمن جديدُ وعدّتُنا وأدواتنا قديمة؟

أن أكون يسارياً اليوم يعني: إن لم أكن نجماً منطفئاً، ففي أحسن الأحوال نجماً شارداً يرتجف برداً في فضاءٍ مملوء بالعواصف التي تطمس الجهات، حتى بتُّ لا أميّز يساري من يميني، خاصّةً وأنّ يساريي الأمس عدّلوا المطرقة إلى بلطة، والمنجل إلى ساطور، ولحية غيفارا بأخرى طالبانية، وقبّعته بعمّة وعقال، والفيلد الخاكي الذي كانوا يتبارون في العثور عليه من بالات كوبا بجلابية بيضاء مضمّخة برائحة نفط مسروق من أصحابه، سرق صرخات الحق، واشتعل فأحرق ثورات، وآمال ملايين الحالمين بالثورات النبيلة!!

ولأن اليسار واليمين نسبيان، مكانياً على الأقل، فليس كالدائرة، خصوصاً وأن الوقت، وقتُ كرةٍ تتعاورها أقدام اللاعبين، فلأكن (أمامياً) – الهمزةُ على الألف - في كل حال، منتضياً عقلي وضميري وحِسّي الإنساني، وكل أسباب قوّتي، وأنا أقف على عتبة وعي جديد، وبيدي مفاتيح الأبواب المغلقة، أن أكون جريئاً على نفسي أولاً، وعلى المستنقعي، الفاسد دائماً، وعلى أعداء الرقي والتطور أبداً، وأن يأبى عقلي الانحياز إلا للحق، فأكون جريئاً على السلطة، فلا أقر بالمحظورات التي تكبّل حركة التكامل الذاتي لإنسانيتي، أن أكون نموذجاً للوعي حين يجدّد نفسه بنفسه، كلما أملى عليه التاريخ ضرورات جديدة، أن أعبّر عن موقفي المبدئي متجاوزةً ما قد يلهب المشاعر ويخدّر العقل، أن ألتزم الحياد الفكري الضامن للتشخيص الموضوعي المنحاز إلى الهم الإنساني ، وإلى العدل والحق المطلق، وبمنتهى البراءة أستلهم الحقيقة أياً كان مصدرها، أن أتناسج مع الإنسان لأكسب معركة صناعة الخطاب القادر على اختراق الحاجز الذهني والنفسي الذي تراكم على وعي الناس من إحباط ولامبالاة، بعيداً عن التظلّم، والمدح والتشهير، والزهو والتحقير، عبر الدخول إلى أمور الناس داخل الوطن أولاً، وثانياً في سائر الأوطان المعمورة، أن أستثمر هذا الانفجار في جسور التواصل الذي أتاحته تقنيات البث والاستقبال المعلوماتي والمعرفي، والتي جاوزت سرعة الصوت إلى سرعة الضوء، لأسقط الأقنعة عن الخطاب الكوني الموغل في المكر والدهاء، وذلك لأن الوطن بات محكوماً بشبكة علاقات معقدة مع الوطن الكوني.

إنها إجابات متواضعة على سؤال امتحانٍ فصليٍّ صعبٍ، لا تعدو أن تكون أكثر من خواطر باردة في زمن ملتهب.        

معلومات إضافية

العدد رقم:
542