فنجان قهوة أهمية الثقافة في عصر العولمة

(1 من 2)
لقد صار من  غير المعقول أن لانتحدث عن التحولات الجذرية التي يشهدها العالم اليوم على جميع المستويات وأبرزها المجال التكنولوجي والاقتصادي والسياسي والاجتماعي.. ولايوجد مجتمع مهما كان حجمه إلا ويخضع لهذه التأثيرات العاصفة لسرعة واتساع انتشارها. فما تشهده من تشابه في نمط العيش والسلوك اليومي بين الشعوب هو أحد مؤشرات العولمة إي الاندماج  في محيط دولي تعمل القوى المحركة له على تقليص مواقع الاختلاف والتمايز. والسؤال الذي يفرض نفسه في هذا المجال يتعلق بطبيعة هذه القوى: ما هو الشيء الذي يكمن وراء التغيرات المؤدية  إلى العولمة؟

لقد كانت سياسات التنمية والتطور في الستينات والسبعينات تبنى على أساس أن الدولة هي المحرك الرئيس للتطوير، وانطلاقاً من اختياراتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية تضبط المخططات وتوزع الاستثمارات وتحدد التوجهات الاجتماعية والديموغرافية من تعليم وتموين وصحة وديموغرافيا. واليوم وفي ظل تعميم الليبرالية لم تعد الدولة تعتبر إلا عنصراً من عناصر الفعل المتواجدة بالمنظومة الاجتماعية ومنها المؤسسات من إنشاء الدولة أو الخواص. وعلى المستوى الدولي فإن أهم التحولات التي نشاهدها اليوم نجد من وراءها العلم والتكنولوجيا.

والتقدم العلمي ليس تراكماً فحسب وإنما هو كذلك تحولات ايبستيمية. ولعل السرعة التي شهدها هذا التقدم في النصف الثاني من هذا القرن راجع إلى ثورة ايبستيمية زحزحت المبادئ التي اعتمدتها العلوم من قبل بمختلف ميادينها. وتبعاً لكل هذه التطورات تطرح أسئلة عديدة حول مفهوم الثقافة بمعناها الأنتروبولوجي الذي يرمز إلى الحضارة وكل ما يبتدعه الإنسان وأبرز هذه الأسئلة يتعلق بوجود  مجال لاختلاف الثقافات أمام تيار العولمة. من هو المثقف؟ وما هو دوره في المجتمع المحلي والوطني والدولي؟

ومن الملاحظ أن تطور المبادئ والتمثلات الثقافية التي تؤسس للعلوم الحديثة أثر على تمثلات الثقافة المجتمعية وتلك التي تتعلق بكيفية اشتغال الفكر الإنساني.

والتحول الرئيسي في هذه التمثلات هو الابتعاد عن الفكرة القائلة بوحدوية المنطق وكونيته والمفروض أنه يخلق التجانس في كل مجالات الحياة وبالمقابل اعتماد مبدأ وجود كيفيات متعددة للتفكير داخل الظواهر، وبالتالي هناك اعتقاد بأن التباين والتغير يمثلان إحدى متطلبات الحياة البيولوجية والاجتماعية، يقول ماروياما أن كيفيات التفكير تختلف من فرد لآخر وبين الجماعات ذات الثقافات ونقطة الاختلاف بين هذه الأخيرة تكمن في سيطرة أحد الكيفيات دون غيرها على عامة الناس. وإذا كانت السيطرة لهذه الكيفية من التفكير فإن التصور الذي يحمله المجتمع عن ثقافته قد تنجر عنه انحرافات كالاعتقاد بأنها هي الأفضل والأرقى (حقيقة واحدة) وما يتولد عن ذلك من مظاهر العنصرية. أو أن يحتقر مجتمع ثقافته ويسعى إلى تقليد ثقافة مجتمع آخر يرى أنها الأرقى ونتيجة ذلك فقدان المجتمع الشعور بتقديره لذاته مع عدم قدرته على استيعاب الثقافة التي يريد تقليدها. وهناك انحراف آخر يتمثل في الأصولية والماضوية حيث تربط الثقافة بالماضي والتراث مع الاعتقاد بأن الماضي كان مثاليا ًوفي الواقع لا يمكن أن يكون كذلك على الأقل بالنسبة لكل فئات المجتمع، والثقافات ليست موروثة فحسب وليست ساكنة وإنما هي تبنى تدريجياً حسب سياق مستمر يعتمد على الموروث ويدمج العناصر الثقافية المستحدثة أو المستعارة في النسق المجتمعي الكلي ويمكن أن يتخذ المجتمع أنماطاً جديدة من السلوك وتنتشر بين فئات واسعة أو يستعير نماذج ثقافية من مجتمعات أخرى ويكيفها حسب واقعه حتى تحظى بالقبول الاجتماعي لتصبح إحدى مكونات النسق الثقافي المجتمعي كظاهرة الموضة مثلاً في مجتمعنا.

ومن الملاحظ أن الثقافة داخل المجتمع الواحد ليست متجانسة تماماً بل تحتوي على اختلاف بين ثقافة الشباب وثقافة الشيوخ، والأغنياء والفقراء والمتعلمين وغير المتعلمين أو غير ذلك من الفئات الاجتماعية. ونتيجة لذلك لا يعيش كل واحد الثقافات بالطريقة نفسها، كما أن هذه الأخيرة لا تتجدد حسب السياق نفسه. ولا يجب اعتبار الاختلاف شيئاً سلبياً وإنما كما الإبداع والاستعارة الثقافية يمثل أساس الحيوية الثقافية وتطورها والمجتمع في حاجة للإيمان بقدرته على فعل الثقافة وتطويرها. وإن لم يكن ذلك فعلى الأقل تتكون فكرة سلبية عنها لدى أعضاء المجتمع لأنها لم تعد قادرة على تقديم الحلول للقضايا الحياتية المعاشة ولا إعطاء الشعور بسيطرته على مصيره. وإذا كان الاتجاه  نحو الثقافة المجتمعية إيجابياً فإن ذلك يقوي الشعور بالهوية وتقدير الذات الفردية والاجتماعية.

وعلى العكس يؤدي الاتجاه السلبي نحو الثقافة إلى تذبذب الشعور بالهوية وعدم تقرير الذات فينخفض لدى أ فراد المجتمع الميل إلى المبادرة والخلق والإبداع وتتقلص القدرة على الفعل لدى الفرد ولدى المجتمع برمته.

ولنا مثال على هذا في فترة الاستعمار لما كان المجتمع متمسكاً بثقافته الموروثة خوفاً عليها من هيمنة المستعمر فلا يبدع ولا يستعير نماذج ثقافية من غيره. وبعد الاستقلال انمحى هذا الخوف ولكن حل مكانه وعي بالتخلف صحبه شعور بالدونية وميل إلى اعتماد ثقافات أخرى لتوجيه السياسات التنموية وحل المشاكل المرتبطة بها عوضاً عن الإبداع.

في حين أن التنمية الحقيقية هي التي تعتمد الاستعارة الثقافية دون مركبات وكذلك التجديد والإبداع لنماذج ثقافية جديدة باستغلال الطاقات الذاتية للمجتمع. والمجتمع المتقدم هو الذي يركز على طاقاته البشرية في كل شيء وينتبه إلى عدم إهدار هذه الطاقات فلا يقضي على الاختلاف بل يحبذه وتجده في نفس الوقت منفتحاً على الثقافات الأخرى يأخذ منها ويقدم لها مساهماته الفكرية والفنية والعلمية والتكنولوجية وغيرها.

والاتجاه نحو الثقافة، إذا كان إيجابياً يعطي قوة الشعور بالهوية وتقدير الذات الفردية والاجتماعية أما إذا كان سلبياً فيصبح الشعور بالهوية مذبذباً وتقدير الذات مفقوداً وبالتالي ينخفض الميل إلى المبادرة والخلق وتتقلص القدرة على الفعل سواء أكان ذلك على مستوى الفرد أو المجتمع.                                                                            (يتبع)

معلومات إضافية

العدد رقم:
175