أوراق خريفية قصتي مع الشيوعية

  (أعترف أن ذاكرتي أصبحت أشبه بأسمال شحاذ. ولكن الذكريات الأليمة تبقى طويلاً في القلب. ولهذا أعتقد أن سرد ذكرياتي ستكون قريبة من المصداقية إلى حدٍّّ كبير).

  بدأتْ تباشير الوعي الطبقي لديّ من المرحلة الابتدائية، عندما كان أبي يزوّدني في مطلع كل عامٍ دراسي بشهادة (فقر حال) أبرزها لإدارة المدرسة من أجل إعفائي من رسم النشاط والتعاون المفروض على جميع الطلاب. وكم كنتُ أشعر بالخزي والعار وأنا أقدّم هذا الصك لموجّه المدرسة، فيقوم هذا الأخير بتفحّصه والتأكد من صحته. فيرمقني بنظرة إشفاق كانت كفيلة باستدرار دمعي فأجهش بالبكاء. وكم كنتُ أخجل من لباسي المرقع ومن نظرات أصحابي إلى قدميّ الحافيتين.. فتشكّلت عندي نقمة كبيرة على الغنى والأغنياء والفقر والفقراء. وتفاقم الحقد بداخلي على المجتمع. وكان لا بدّ من توجيه حقدي إلى جهة ما أضعف مني، لا بدّ من وسيلة ما لتفريغ العدوانية المتراكمة بداخلي، أقضي من خلالها على الغليان الذي يستعر في كياني. فكان العنف أهم صفة اتسمت بها طفولتي الشقية البائسة. فبدأتُ أنتقم بطريقتي الخاصة؛ وحيث أن الحيّ الذي كنتُ أسكنه كان أغلبه من السكان الفقراء تتخلّل بعض أزقته بيوتٌ لبعض الميسورين. الذين كنت أنتقم منهم بأن أرنّ أجراس بيوتهم في أوقات متفرقة من الليل والنهار وأفرّ هارباً، فيطلع الأهلون لاستقبال القادم فلا يجدون أحداً.. فأشعر بنشوة المنتصر. أما البيوت الأكثر فقراً فكنت أقوم برشق شبابيكها بالحجارة ليلاً فيتكسّر الزجاج وتعلو الشتائم وعبارات التهديد والوعيد من داخلها.. وأعود إلى بيتي وقد تسلل الاحتقان من أعماقي، وانطفأت جذوة العدوانية بداخلي. لدرجة أنني لم أستطع النوم في حالات التوتر الشديد ما لم أقم بهذه الأفعال.
  ولمّا بدأ الأهالي ينصبون لي الكمائن لضبطي متلبساً بالجرم المشهود، بدأتُ أفكر بطريقة أخرى لتنفيس حالة الاحتقان، فاستبدلْتُ صبّ جام غضبي على البيوت إلى صبّها على كائنات وأشياء أخرى. ولمّا كان حيّنا تكثر فيه الكلاب والقطط، فكنت أراقب أوْجرتها وأنتظر ميلاد جرائها إلى أن تصبح قادرة على السير واللعب، فأستميلها من خلال تقديم الطعام لها حتى تأمن جانبي وتعتاد عليّ وتألفني، فأقوم بقتلها بمنتهى الوحشية؛ بأن أضعها على صخرة وأقوم بضربها بصخرة أخرى فيتمزق جسدها إلى أشلاء مدمّاة وسط نباحها وعوائها الحزين. وبعد أن كادت القطط والكلاب تنقرض من الحيّ اتجهتُ إلى الحراذين وحيّات الشمس، حيث كنت لا أكتفي بقتلها بل كنت أقوم بشوائها على النار. وكانت متعتي أكبر إذا ما اصطدتها حيّة وقمتُ بحرقها قبل أن تموت.. حتى أصبح مشهد حرذون أو حية شمس في حيّنا من النوادر..

  فاتجهتُ إلى الضفادع في المستنقعات والبرك المائية.. ولم يكن مصيرها بأفضل من سابقاتها..
  اتجهتُ إلى غابة الصنوبر القريبة من حيّنا وبدأت بالسطو على أعشاش العصافير حتى أفنيتها. وبات سماع زقزقة عصفور في الغابة من العجائب. فبدأت بتقطيع أغصان الشجر وإتلاف ثمارها.. ولم أرتوِ..!
  فاتجهتُ إلى الناس..
  صرتُ أتمرّن بأقراني بأن أختلق معهم المشاكل فتنشب المعارك الطاحنة بيننا، فأفرّغ شحناتي العدوانية في أجسامهم... ولم يبقَ لي صديق يحبني بل الجميع يهابني ويحجمون عن رفقتي..
  فاتجهتُ إلى أخوتي وأخواتي، أتذرّع بأتفه الأسباب لأقوم بتعنيفهم والصراخ عليهم وضربهم، حتى باتوا يكرهونني جميعاً.
  اتجهتُ إلى جسدي، وبدأتُ أجري عليه شتى التجارب العنيفة؛ أتسلّق أعلى أشجار الغابة، أقفز من الأسطحة على الأرض، أشطّب جسدي بالسكاكين، أدقّ الوشم في أنحاء متفرقة منه، أدهنه بحليب بعض النباتات الحارقة..
  في هذه المرحلة الحرجة من عمري، انتقل أهلي من الحيّ الذي نسكنه إلى حيّ آخر بسبب دعوى الإخلاء التي أقامها المؤجّر علينا. فأصابني نوعٌ غريبٌ من الحزن والتشاؤم والإحباط؛ فقر مدقع، أبٌ قاسٍ لا يرحم، أمّ مسكينة لا حول لها ولا قوة، بؤس وتخلّف وحرمان، عجز عن تفسير هذه الظروف والأوضاع، وانعدام القدرة على تغييرها... فتحوّلت حياتي إلى جحيم حقيقي. أقضي جلّ وقتي وأنا في حالٍ من التأمل والبكاء واجترار الخيبات، حتى وصلتُ للتفكير بالانتحار... وكان يسكن في جوارنا شاب شيوعي، بدأ يكسر عليّ عزلتي تدريجياً من خلال الحوارات التي يقحمني فيها، مبيناً لي أن الآخرين الذين أصبّ عليهم نقمتي ليسو الأعداء الحقيقيين لنا، بل هم ضحايا ظروف ظالمة مثلنا. وأن الفقر ليس قدراً مفروضاً علينا، ولا اختباراً من الخالق لنا. بل بسبب سوء توزيع الثروة. وأن ثمة بلدان استطاعت تحقيق العدالة الاجتماعية وتغلّبت على الاستغلال والفقر. وانتهت منها حالات البؤس والقهر والحرمان.. وبلدنا لم يكتب له البقاء بأوضاعه المزرية هذه. ويمكننا تحقيق ما نصبو إليه عبر الإيمان بالمثل والقيم الاشتراكية والسعي لتحقيقها..
  ومن خلال حواراتنا اليومية تولّد عندي شغف أسطوري لتحصيل ما فاتني من علوم ومعارف. وعشق رومانسي للتمرّد والنضال من أجل تحقيق الاشتراكية. وبدأت أقرأ ساعاتٍ طوال يومياً وأتلهّف للشروع بالنضال إلى جانب من رهنوا أنفسهم لخدمة الحق والخير والإنسانية. وكان الطريق معبّداً للانخراط في صفوف الحزب الشيوعي السوري في مطلع عام 1974.  

معلومات إضافية

العدد رقم:
283