أشياء لا تحدث إلا في ساروجة

للحياة في حي ساروجة الدمشقي مذاق آخر، ذلك أن هذا الحي الذي ظل لسنوات طويلة حياً وادعاً ومنسياً تحوّل فجأةً إلى ميتروبول مصغر، حيث تلتقي فيه أناساً من كل الجنسيات، بما فيها الجنسية السورية، لأن بعض الواهمين من حاملي هذه الجنسية يحلمون أن يصحوا في صباح اليوم التالي وقد صاروا فرانكفونيين أو أنجلو ساكسونيين (وواحد بالمائة من هؤلاء طموحه أرقى من  الآخرين لأنه تواق إلى شواطئ الكاريبي وخلاسيات هافانا)،  فأي أجنبي جالس وهو يتعاطى الأرجيلة لا يعني لهم سوى جواز سفر (شنغل) إلى بلاد الأحلام الذهبية.

قرب  «جامع الورد ـ نزلة جوزة الحدبة» المكان بات صورة مصغرة لبعض شباب اليوم (ذكوراً وإناثاً)من الساروجيين والساروجيات الجدد، المؤركلون منهم والمؤركلات، المطبقًون منهم والمطبقَات، يمثلون نموذجاً جديداً لما يسمى زوراً «المثقف السوري»، فبعد أجيال مثقفي الستينيات حملة الأيدولوجيا، ومثقفي السبعينيات والثمانينيات المثقلين بالأحلام والخيبات، ومثقفي الضياع في التسعينيات ، يمكن النظر إلى واهمي ومخدوعي هذا الجيل ككوكتيل لكل هذه الأنماط من المثقفين، بل إنهم أحياناً يجتمعون في الشخص الواحد، فترى شاباً يدعي الثورية متحمساً مشغولاً بآخر صرعات الأزياء، وفتاةً من طراز هيفاء وهبي شكلاً ومضموناً تنظِّر لحرية المرأة دون أن تفهم كلمة واحدة مما تقوله.. وقد ترى شاعراً بوهيمياً خارجاً من صلاة المغرب في جامع «الورد»، أو فتاة محجبة توزِّع آخر ألبومات فرق (الميتل) على رفاقها.. في ساروجة كل شيء ممكن!!
ربما لو كنا في زمن ووضع ثقافي آخر لأمكن لساروجة أن تصبح نموذجاً مصغراً عن الحي اللاتيني في باريس، لتخرج منها مختلف الثورات الفكرية والفنية والاجتماعية الضرورية في الواقع السوري، ولكن الواقع يدلنا على أن هذا الحي الصغير قد أصبح وعاء آمنا لكل أشكال التمرد الاجتماعي اللا واعي واللا موجه.. هكذا يفرغ أولئك الشباب كبتهم في الخواء، ويعودن لبيوتهم كأولاد مطيعين، بعد أن عاشوا حياة ألف ثوري وفنان وفيلسوف... في علبة سردين مغلقة ليس بإمكانها أن تزعج استقرار أية مؤسسة سلطوية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
407