رائد وحش رائد وحش

فيصل درّاج: عندما أهزم أكثر سأترك النقد الأدبي وأكتب رواية!!

نعرف د. فيصل دراج ناقداً ومثقفاً مواظباً على تقديم ما هو طازج وفكري في الصحافة العربية، ونعرف قسماً كبيراً من كتبه، وعلى وجه الخصوص تلك التي كتبها في نقد الرواية، لكننا لا نعرف من هو هذا الرجل، ولا نعرف شيئاً عن حياته..

السؤال الأول: «من أنت؟؟» كان يحتاج من المساحة ما يعادل ما للحوار ككل، لكن نظراً لضرورة الجواب، فإننا سنقدمه بشكل ملخص: ولد في  (فلسطين - صفد -الجاعونة 1943)، وفي شهر أيار 1948 هاجر طفلاً إلى جنوب لبنان، ثم انتقلت الأسرة إلى حوران، ثم إلى قرية «الجويزة» في القنيطرة، وبعد مرور ثلاث سنوات رحلت العائلة إلى دمشق لتسكن في حي الأكراد، وما يذكره د. فيصل أن بيتهم كان يطل على بيت تبين له فيما بعد أنه بيت خالد بكداش، وكان الصغير وقتها يضع سلماً ليتسلق الجدار ويستمع إلى خطابات الشيوعيين، وأصبح هذا المنظر جزءاً من ذاكرة الطفولة التي امتزجت فيها حالة اللجوء بالمكان الذي تختلط فيها العربية والكردية، وهذا ما جعله يشعر لفترة طويلة أن قربه من الشام رمزي-حكائي، ولازمته هذه الصورة لفترة طويلة..
بعدها انتقلت العائلة للإقامة في مخيم اليرموك، وتنقل هو بين مدارس دمشق، حيث كان جو الطلبة مسيّساً جداً، وفي الجامعة كان التسييس أوسع وأرحب، وبحسب ما يقول: «كان أولاد العائلات الدمشقية التقليدية هم فقط من لا يتعاملون بالسياسة، أما بقية الطلاب من فلسطينيين وسوريين من كل المحافظات فكانت لديهم انتماءات سياسية، وأهمية هذا تكمن ليس في التسييس بل في وجود حاضنة مثقفة، فالشيوعي يقرأ أدبيات الماركسية اللينينية، والقومي العربي يقرأ ساطع الحصري وقسطنطين زريق..الخ».
في نهاية الستينيات ذهب إلى فرنسا، وهناك سجل رسالة دكتوراه عن اغتراب ماركس الشاب. وقد أتاحت له باريس أن يكون لصيقاً بالكتب، حيث استفاد من تجربة الثقافة الفرنسية التي أتاحت له الرحابة في التفكير. بعدها عاد إلى بيروت التي كانت تشهد جواً ثقافياً غنياً. وعمل في دائرة الإعلام التابعة لـ«منظمة التحرير الفلسطينية» مدة ستة أشهر، ثم عمل مع مركز «الأبحاث الفلسطينية» الذي كان يديره أنيس صايغ، وتعاون مع مجلتي «الحرية» و«الطريق». وفي لبنان تعرف إلى محمد دكروب وكريم مروة ومهدي عامل وحسين مروة. ولعل تجربة بيروت هي «أساس تعاملي شبه الجدي مع الكتابة» كما يقول.

ثم جاء قرار الاستقرار في بيروت إلى أن جاء الاجتياح الإسرائيلي، ليذهب إلى تونس، وبعدها تجوّل بين البلدان الأوروبية، ليختار في النهاية التنقل بين دمشق وعمان.
 
كيف استطعت أن تربط بين النقد الأدبي والماركسية؟؟
على الرغم من أنه يقال دائماً بأن النقد الأدبي هو الجانب الأضعف في الماركسية، فانا أعتقد أن الجانب الأكثر تنوعاً وغزارة وإشراقاً في تاريخ الماركسية هو النقد الأدبي، ولا أعني هنا الماركسية «الرسمية»، فمن خارجها ظهرت مجموعة مهمة من المساهمات سواء كانت من الماركسيين الألمان أو الإيطاليين أو الفرنسيين، لا أريد أن أثقل على القارئ بكم من الأسماء، لكن هناك أمران أساسيان، أولهما أن فكرة الثقافة هي مشروع للتحويل الاجتماعي تجعل أي ماركسي يتعامل مع الأدب كجزء من الممارسات الثقافية الداعية إلى التحول الاجتماعي، الأمر الآخر أنه لا يوجد فيلسوف ماركسي كبير لم تكن الممارسة النقدية الأدبية مُدرجةً في بحثه الفلسفي، ولم يعط مكاناً واسعاً للأدب في عمله النظري، سواء كان لوكاتش أو بلوخ أو غلودمان..
أثناء عملي على أطروحتي كانت هذه الأمور تمر معي باستمرار، وبالتالي كنت أدرس الفلسفة وكنت أدرس معها ضمنياً المنظور الماركسي للأدب والفن، وهو منظور متنوع جداً، وغالباً جاءت المساهمة الكبرى من الماركسيين غير الحزبيين مثل فالتر بنيامين ومدرسة فرانكفورت، وطبعاً كان هناك بعض الحزبيين اللامعين مثل الإنكليزي كريستوفر غولدمان الذي مات وعمره 29 سنة. إضافة إلى كل ذلك الماركسية لا تزال حتى اليوم أحد المنابع الأساسية في النقد الأدبي المعاصر، يكفي أن تنظر إلى أشهر ناقد أمريكي فريدريك جيمسن، وكذلك الماركسي الانكليزي تيري إيغلتون، وحتى إدوارد سعيد كانت عنده إحالات مستمرة إلى غرامشي.
 
تلح كثيراً على طه حسين ونجيب محفوظ.. ألم يتمّ تجاوزهما برأيك؟؟
طه حسين يعني الاتساق.. هو المثقف العربي الوحيد الذي قدّم منظوراً واضحاً ومتكاملاً ولا مساومة فيه من أجل اقتراح مجتمع عربي حداثي ديمقراطي علماني. الميزة الأخرى لديه هي تقديمه منظوراً جديداً وشجاعاً جداً في التعامل مع الماضي، وتفريقه ما بين الماضي كمجموعة من القصص والحكايات والسرديات والحقائق والأكاذيب، وما بين التاريخ الذي ينبغي أن يكون نوعاً من البحث العلمي المستند على معايير، وأيضاً ضرورة التحرر من الماضي من أجل الانطلاق نحو المستقبل، وأشير هنا إلى كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» الذي لقي نقداً شديداً في زمانه، وخاصة من ساطع الحصري، ولكنني اعتبره أهم مشروع ثقافي سياسي قدمه مثقف عربي في القرن العشرين، ويتجاوز في أهميته أي مشروع آخر قدمته الأحزاب السياسية. وأيضاً هناك كتابه الذي لا يلتفت أحد إليه الآن: «الفتنة الكبرى»، وهو أهم كتاب عربي في القرن العشرين لأنه قدّم رؤية واضحة موثقة بالتاريخ الإسلامي، وخاصة ما يسمى بـ«التاريخ الراشدي»، وبيّن ما هو إيجابي فيه، ومتى انتهى هذا التاريخ وعاد العرب إلى جاهليتهم الأولى كما كان يقول. طبعاً الميزة الثالثة لطه حسين أنه بقدر ما كان مثقفاً شجاعاً ولامعاً وغير مساوم ومشرق الفكر ومجدداً بقدر ما أصبح مخذولاً ومهزوماً في السبعينيات، وخاصة من أنصار الثقافة النفطية والدولار النفطي الثقافي الذي شوّه بما لا يحتمل صورة طه حسين، والذي أساء إلى كل الثقافة العربية، والذي لم يقدم بديلاً عن حسين إلا مجموعة من المرتزقة والمتكسبين والملفقين.

بالنسبة لي هناك وجهان لطه حسين، الأول هذا المثقف الصادق الجريء، والثاني هزيمته المدوية، وطبعاً بدائل طه حسين وهم مجموعة من أقزام المفكرين.
أما بخصوص نجيب محفوظ فأنا مبهور بمجموعة أمور، أولها مساحة البصيرة الفكرية عنده، فهو بدأ بمنظور يساوي بين السلطة والشر في بداية أعماله عام 1937، وبقي مصرّاً على هذا المفهوم إلى أن مات، ليس بمعنى التكلس وإنما بمعنى أنه قدّم منظوراً صحيحاً، إضافة إلى ذلك هو صورة للمثقف الحديث في إطار الاختصاص، وبوعيه التاريخي بأن الرواية تتجاوز الشعر بما لا يقاس، وبمنظوره للعالم على أساس أن تحرير الإنسان يحتاج إلى سلطة ديموقراطية، وبمفهوم المصادفة واللامتوقع.. أكثر من عبر عن مفهوم الحداثة في إطارها الروائي هو نجيب محفوظ، فإذا كان طه حسين قد عبر عنها بكتابات أدبية وتاريخية فمحفوظ رفعها إلى المستوى الأعلى: الرواية، إضافة إلى أنه أعاد تأسيس الرواية العربية عدة مرات. بدأ بالمرحلة التاريخية، ثم أعاد تأسيس روايته على أسس واقعية في الأربعينيات، ليعيد تأسيسها في زمن القمع عندما استعمل الأمثولة والحكايات الشعبية والنص الديني في «أولاد حارتنا»، ثم لاحقاً في «الحرافيش»، ومع البدايات الخائبة للسلطة الوطنية أعاد تأسيسها في الستينيات في إطار البطل المغترب ورواية الأفكار «اللص والكلاب» و«ميرامار».. بهذا المعنى لم يكن فقط رائد الرواية العربية الأكبر وإنما رائدها ومجددها، على الأقل لثلاثة أو أربعة أجيال، طبعاً هناك عنصر هام هو تلك النزاهة العالية في شخصيته، فقد كان يكره السلطة وطقوسها، وكان مصراً على أن يكسب حياته من قلمه إلى نهاية الستينيات.. هذا التكامل المعرفي والأخلاقي والإبداعي هو ما يشدني إلى طه حسين ونجيب محفوظ.. طبعاً السؤال هل تم تجاوزهما هو سؤال ليس له معنى على الإطلاق، إن أردت أن تتجاوز منجزاً ثقافياً يجب أن تقوم بنقده نقداً موضوعياً وعلمياً وتقدم بديلاً أكثر مواءمةً، أكثر علميةً، أكثر تاريخية من مشروع طه حسين، وهذا لم يحصل. كذلك لم يتجاوز أحد نجيب محفوظ. في أحسن الحالات المبدعون الروائيون العرب مثل جمال الغيطاني الذي أحمل له قدراً كبيراً من المحبة، هو اشتقاق مبدع لنجيب محفوظ، واستمرار للمحفوظية في شكلها المبدع ولكن ليس في إطار التجاوز.
 
هل جاء اهتمامك بالرواية نتيجة انهيار طموحاتك الفكرية؟؟
بمعنى ما نعم. كان طموحي عندما كنت شاباً، في زمان غير هذا الزمن، أن أكون مثقفاً فاعلاً في حزب سياسي، وأن أكرّس معرفتي، صغيرة كانت أم كبيرة، من أجل تغيير المجتمع، ولكن بعد تجربة عملية اختلفت إلى، وليس اختلفت مع، مجموعة من الأحزاب، ووجدت أن هناك نوعاً من التزمت والانغلاق وضيق الأفق، والتنكر للثقافة والتطير منها، فابتعدت، إضافة إلى شيء مهم جداً وهو أن هزيمة 67 هزمت معها جميع المشاريع الوطنية العربية، وما مأساة منظمة التحرير الفلسطينية في فضائلها ورذائلها إلا لكونها جاءت بعد 67، حيث أرادت أن تكون حالة ثورية في ظل هزيمة عربية شاملة، ولكونها لم تستأنف ما كان مضيئاً في التجربة الكفاحية العربية وإنما تعلمت كل ما هو سلبي وسيء من الأنظمة المهزومة لتصبح في النهاية مشروعاً سياسياً مهزوماً، لهذا بدأت أذهب إلى المتخيل، إلى شيء بديل، شيء مواز، فالرواية هي من ناحية المتخيل، وهي أيضاً عمل أدبي فكري نقدي بامتياز، إضافة إلى أنني أجعل نقد الرواية مناسبة لأكتب ما أريد أن أقوله في جميع المجالات. بدأت في نقد الرواية عام 1970، واستطعت أن أجد صيغة أجعل فيها الرواية مجالاً استولد منها ما أريد على المستوى السياسي والثقافي، وأيضاً اربط هذا الشيء بالبنية الفنية العامة، خاصة أنني أعتقد أنه لا توجد نظريات مسبقة، فكل عمل روائي جيد يفرض على الناقد أن يستولد من هذا العمل بالذات معاييره وشكل قراءته.
انزياحي إلى النقد الروائي هو تعبير عن هزيمة في التجربة السياسية، وعندما أهزم أكثر سأترك النقد الأدبي وأكتب رواية. وتراكم الهزيمة أمر محتمل كما أعتقد.
 
كيف تنظر إلى المشهد الروائي العربي الجديد؟؟
مشهد إيجابي. التحولات الاجتماعية تؤدي إلى إسقاط أشكال أدبية واستيلاد أشكال جديدة. أعتقد أن ما هو إيجابي في إطار الحركة الروائية العربية هو هذا الحدس، أن هناك فترة فرضت أشكالاً معينة ثم انتهت وجاءت مرحلة مختلة كلياً تحتاج إلى شكل جديد. يضحكني أن أقرأ مجلة فيها فصل من رواية بطلها إيجابي، لأنها مرحلة وانتهت. أو أن تستمر رواية العائلة، فالتفسخ الاجتماعي لا يسمح بأن تجعل المفهوم العائلي محور الرواية كما فعل نجيب محفوظ  في الأربعينيات. حالياً هناك التشظي والخراب والدمار وينبغي أن يعبّر عنها من خلال المنظور واللغة والبنية الروائية، وبالتالي سيكون هناك تراكم يعيد تأسيس الرواية العربية من جديد في الألفية الثالثة، ولو لم يحدث هذا التحول في الكتابة الروائية لما كانت لدينا كتابة، وكل ما هناك السخف وإعادة إنتاج الماضي.
 
في كتابك «بؤس الثقافة في المؤسسة الفلسطينية» تناولت اختلال العلاقة بين السياسة والثقافة على الساحة الفلسطينية.. الآن كيف تنظر إلى هذا الاختلال؟؟
الآن لا يوجد لا ثقافة ولا سياسة. كان عندنا مفهوم الموالاة، وهو من أفقر وأبأس المعايير التي يمكن أن تعاير بها عملاً ثقافياً، للأسف كانت عندنا الموالاة أو التحزب، كما لو أن الموالاة موهبة، فالموالي هو الموهوب والمليء بالإمكانيات المتعددة، وغير الموالي فقير ثقافياً، وهذا منظور لا أخلاقي وانتهازي، فقد أنفقت أموال هائلة على أناس لا مواهب لديهم ولا أخلاق، واستبعد المشروع الثقافي. هناك نقطة أخرى: لا وجود لثقافة إلا في إطار سياسة ثقافية واضحة، ولكن عدم وجود سياسة ثقافية واضحة إلا في إطار منظور سياسي واضح، ومنظمة التحرير لم يكن لديها منظور واضح منذ البداية وحتى اليوم، ولأنها كانت سياسة يومية كانت تحتاج إلى نوع من الثقافة اليومية والأديب اليومي والإعلامي اليومي، أي أن كل ما هو صادق وموضوعي وإيجابي كان مستبعداً مسبقاً. الآن وصلنا إلى لا شيء. من الصعب أن نتحدث حالياً عن الإبداع الروائي الفلسطيني، ومع رحيل محمود درويش وما تبقى غيره ممن جاوزوا الستين أيضاً، من الصعب أن نتحدث عن صعود الشعر الفلسطيني أو النقد الفلسطيني، هناك انهدام في جميع المعاني، وحالياً المبدع هو الذي لا يرثي وإنما يقدّم صورة موضوعية عن هذا الواقع الحزين الذي نعيش. ما يسمى استنهاض له شروط، أن تستنهض في ظروف بائسة يعني أن تكون كاذباً. حين تُظهر الانحطاط في أكثر درجاته عمقاً وغلواً عندها فقط تستنهض الأرواح!

معلومات إضافية

العدد رقم:
414