جهاد أسعد محمد جهاد أسعد محمد

الانقلاب على النجاح!

ارتبطت الموسيقى الشرقية عموماً، والعربية تحديداً، بالغناء، ولم تستطع، فيما أعرف، أن تشق طريقها وحدها بعيدة عن الكلمة الملحنة والمغناة إلا ما ندر وبصعوبة بالغة، وأقصى ما استطاعت الوصول إليه بتأكيد خلاصات البحث الأركيولوجي المكتشفة حتى الآن في منطقتنا، وأمهات الكتب التراثية التي انتهت إلينا، أن تكون الرديف الموازي، الذي يمكن أن تنفرد بعض آلاته الأساسية كالعود والقانون، بتقاسيم تمهيدية أو فواصل مقطعية بين اللوازم الشعرية أو الأدعية الملحّنة، بهدف تخديم القصيدة أو الكلمة شرطاً. هذا في العموم، ولا يقلل من سيادة هذا المنحى الدارج خروج بعض الموسيقيين وعلى رأسهم الفارابي عن هذا النسق بمعزوفات لا نعرف عنها شيئاً كثيراً، أكدت المصادر التي أوردتها أنها كانت تُبكي وتُضحك وتُرقص وتنوّم المستمعين إليها... حسب مشيئة عازفها ومبدعها.

وانطلاقاً من ذلك وبسببه، لم يستطع معظم ورثة هذا الإرث، في فترات مختلفة سابقة، أن يتذوّقوا جُلّ الموسيقى الكلاسيكية الغربية إلا بمجالدة النفس، والبعض حسب خصوصية كل مرحلة، أظهر ذلك ادعاءً، أو مجاراة لتيار سائد، أو تعامل معه كمتمم ثقافي لا مهرب منه، أو كـ«بريستيج» اجتماعي فرضته مناخات محددة على الشرائح الاجتماعية الأرستقراطية والوسطى في معظم بلاد الشرق..
لكن بروز تجارب ومواهب موسيقية خاصة ومثقفة منذ الربع الأخير من القرن الماضي، تعاملت مع الموسيقى ليس بوصفها فنّاً فقط، بل وكعلم له منطلقات وقوانين ونظريات، وكأسلوب فني وإنساني مستقل عن الكلمة، له كيانه ووسائله ورسائله الخاصة في التعبير.. استطاع جدياً كسر هذه القاعدة غير الصلبة، وتمكّن فنانون مثل نصير شمّا وزياد الرحباني ومارسيل خليفة وغيرهم، من إحداث اختراق واسع في الذائقة الموسيقية، حيث راحت شرائح واسعة وعريضة من الجمهور العربي تتذوق الموسيقى المجرّدة وتترقب جديدها..

وبرز في مرحلة لاحقة الفنان شربل روحانا بجملته الموسيقية الرشيقة وحسه المرهف المثقف، فقدّم منذ انطلاقته إضافة كبيرة في هذا المجال باكتشافه ميزات جديدة وقدرات كامنة في الآلات الموسيقية الشرقية، واستطاع أن يوسّع أفقياً شرائح (سمّيعة) الموسيقى المجرّدة، وكوّن لنفسه سمعة خاصة من خلال تعاقب مؤلفاته الراقية ذات الميل العام الصاعد باضطراد مع تطور تجربته وازدياد خبرته، فرسّخ حضوراً كبيراً في الساحة الفنية الملتزمة عبر إبداعاته الموزعة في: «مزاج علني» و«العكس صحيح» وغيرها..
ولكن الغريب وغير المتوقع أن شربل راح شيئاً فشيئاً، ينحو باتجاه الأغنية، بدايةً كمؤلف وموزّع، ثم مغنياً، وبدأت جملته الموسيقية الرشيقة الحميمة تفقد بعض دفئها وبوحها بعد أن استبدلها، أو راح يماشي معها، جملة كلامية منقوصة الحس والرمزية، وبدا فجأة وكأنه أضاع بوصلته الفنية التي كانت تسدد خطاه وتقيه من التخبط..
أقدم هذا الانطباع بعد تتبع لنتاج شربل في السنتين الأخيرتين، وقد عزز ذلك لدي رصد انطباعات الجمهور الدمشقي الذي تقاطر لحضور الحفلة الأخيرة لشربل في قلعة دمشق، ثم خرج خائباً..
شربل روحانا.. موهبة مميزة، وتجربة شديدة الخصوصية.. ومن حق الناس على صاحبها أن تبقى صاعدة ومفتوحة الأفق..

معلومات إضافية

العدد رقم:
415