فيروز صوت لن يحده الزمان

عندما أسمع جملة تقول بأن شخصاً ما  أكبر من بلده، لم أكن أعرف ما تعنيه هذه العبارة تماماً، لكنني الآن أعرف ما تعنيه، إنها فيروز، فيروز التي يتجاوز صوتها حدود لبنان إلى كل العالم.
فيروز التي تعي تماماً علاقتها ووجودها بالزمان والمكان التي جاءت فيهما، تفهم صيرورتهما، تدرك الماضي،الحاضر والمستقبل، وتلون كل مرة بجديدها وحاضرها تجربتها التاريخية، الماضي يؤثر بقوة على الحاضر ويتركه واضحاً وجلياً في أغانيها، لا نستطيع أن نرى فيروز إلاّ انطلاقاً من كليتها، لا نستطيع أن نجتزئ منها شيئاً، فيروز هي فيروز، ماض، حاضر ومستقبل.

من هنا تأتي جرأة فيروز/ زياد  في شريطهما الجديد (..ولا كيف)، فيروز التي لا تريد أن تبقى مرتبطة بالماضي فقط بل تدخل في صيرورة الزمن، في رحلة اكتشاف ومغامرة تظهر في كل مرة مع كل جديد تخرج به، فجاء (..ولا كيف) بعيداً عن حلول الهرب من التجديد، وجمود الزمن.
ما الذي تغير في فيروز؟. فيروز (بكتب اسمك يا حبيبي)، (ويا مايلة عالغصون)، (في قهوة عالمفرق)، (عالباب بتوقف)، وغيرها من الأغاني، فيروز في كل هذه الأغاني  بقيت هي فما الذي تغير هذه المرة؟ نجد أن كلمات فيروز بقيت حياتية يومية ومعايشة لتفاصيل ودقائق أيامنا حبة، حبة، ملامسة لهذه التفصيلات التي تشعل فينا أفراحاً وأحزاناً، تحكي عن غياب فراق وحب، وتفاصيل لا تحكي عنها إلاّ فيروز، ما الذي تغير في ما تغنيه فيروز.إن الذي تغير هو توجهها إلى الحكاية بشكل أكبر هذه المرة وبشكل أكثر تفصيلاً، بمعالم لهذه الحكاية والتي تحمل بداية ونهاية ووصفاً لحاضر تغنى فيه هذه الأغنية. فابتعدت بذلك عن الصورة ذات البلاغة الشعرية والوصف المباشر اللذين اعتدناهما في أغانيها لاسابقة (فايق ع سهرة وكان في ليل وندي والنار عم تغفى ع حضن الموقدة والعتوب مسافرة ومافي كلام ولا هدي قلبك ولا قلبي هدي ونام الحكي والناس وانهد السراج…وتكية خصور الورد ع كتف السراج)، نفس الحكايات بقيت لكن الحالة في (..ولا كيف) ظهرت في الأغاني الجديدة بشكل أكثر تكثيفاً وأسرع نوعاً ما وتحمل نفس الدفق الشعري، من دون أن أقول الجملة التي كثيراً ما تكرر(لتتلاءم مع روح العصر)، فجاءت الكلمات (بتذكرك كل ما تجي لتغيم، وجك بيذكر بالخريف .. ترجعلي ل ما الدني بدا تعتم متل الشتي لنازل ع الخفيف القصة مش طقس يا حبيبي هي قصة ماضي صار عنيد بس هلق ما بتذكر شكل وجك بس بذكر قديش كان أليف).

 تكثفت الصورة الشعرية، وتجاورت مع موسيقى أراد بها زياد الكثير أن يقول الكثير، كما قاله بشكل رائع في ألبومهما السابق وبالأخص في أغنية وقمح، حين جاور زياد مجموعة من الآلات الموسيقية مع بعضها البعض تعزف جملة لحنية واحدة آلات بأجمل الأصوات، ليخرج من بعدها صوت فيروز بكل زخمه وتؤدي ذات الجملة اللحنية، وكأن زياد يقول نعم إنها فيروز، التي لن تكون يوماً ماض فقط. وفي الألبوم الجديد يقوم بشيء مشابه في أغنية بذكر بالخريف، فتترافق جملة( القصة مش طقس ياحبيبي  هي قصة ماضي كان بعيد) بصوت فيروز مع قرار عميق لآلة الكونترباص العظيمة تأتي من الداخل ويسحبنا إلى العمق بهدوء، تأتي بعد ذلك آلة البيانو وترفعنا من جديد ونحلق في عوالم فيروز/زياد.
لقد استطاعت فيروز أن تقدم شيئاً مختلفاً تماماً في أغنية (يا مريم) مختلف تماماً عما قدمته سابقاً في هذا النوع من الغناء ربما كانت نفس الكلمات التي اعتادت غناءها أو أقرب من تلك الأغاني، فلم يعد اللحن  يسير في طريق واحد بل متنوع ومختلف، وقد يسير في بعض المقاطع في اتجاه وصوت فيروز لحنياً في اتجاه آخر.

من أكثر الملاحظات التي قيلت عن الألبوم الجديد السرعة في الأغاني ولا أعتقد أن في هذا مشكلة كبيرة، أعتقد أن المشكلة التي واجهها البعض تكمن فقط في الشحنة الشعرية الموجودة في كلمات هذه الأغاني  فالألحان لم تتغير كثيراً وفيروز منذ زمان بعيد تغني ألحاناً غربية وليست دائماً مؤلفة خصيصاً لها، فكان الأخوان رحباني يعيدان توزيع هذه الأغاني بما يتلاءم مع طبقاتها الصوتية ويتكشفان المزيد من هذه الطاقات في كل أغنية جديدة، وهذا ما استمر زياد بالقيام به في الألبوم الجديد، استكشاف القدرات الأدائية والصوتية للسيدة فيروز.
لم أدرس يوماً النقد الموسيقي أو الموسيقى لكنني لم أستطع أن أمنع نفسي من الكتابة كلما أسمع صوت فيروز في أي وقت في هذا الألبوم الذي يعيد اكتشاف فيروز ليس في مغامرة كما يقول البعض بل هو تجربة تثبت رفض الجمود والتوقف في زمان معين بل عن طريق الدخول في صيرورة الزمن، وديمومته.

معلومات إضافية

العدد رقم:
168