سمير دياب سمير دياب

اقتفاء أثر حسين مروة

حسين مروة رجل عظيم، عاش كالشمس، واضحاً، دافئاً، ناسجاً خيوط أشعة فكره الثوري، وجدلية منهجيته المادية على معمورة قيدتها منذ قرون طويلة منهجيات جامدة، قاسية،  ومقدسات -محرمات يمنع تناولها إلا عبر وسطاء عبثوا دهوراً بالجوانب المشرقة في حركة تطور المجتمع العربي – الإسلامي، وأقاموا حواجز أيديولوجية– طبقية لإعاقة مرور حركة تطور التاريخ البشري.

أن تكون كاتباً، أو مفكراً، أو فيلسوفاً ثورياً على شاكلة حسين مروة، يعني أن تكون مشروع شهيد مسجل على لائحة قوى التخلف تنتظر رصاصة أو أكثر، صامتة، في الشارع أو المنزل أو المكتب أو المقهى، والنتيجة تبقى دائماً سقوط القلم وصعود الفكر إلى فضاءات أوسع في الوعي المادي للناس.
كتب المفكر حسين مروة قبل 17شباط 1987، يقول: «إن قضية العلاقة بين فكرين أو فلسفتين ينتميان إلى مجتمعين مختلفين، قضية معقدة لأنها تخضع لعملية معقدة ترفض النظر التبسيطي الميكانيكي. إنها قضية العلاقة بين الداخلي والخارجي من أشكال الوعي الاجتماعي، وهي علاقة تفاعل له قوانينه وديالكتيكه الحركي.إن السمة العامة الأساسية لقوانين هذه العلاقة هي، أولاً: كونها موضوعية وليست ذاتية إرادية، وهي، ثانياً: كون الفكر الخارجي لا يمكن أن يكون فاعلاً ومؤثراً في الفكر الداخلي إلا عبر العلاقات الداخلية لهذا الأخير، أي عبر القضايا التي يرتبط بها بنسيج من العلاقات الخاصة بمجتمعه المعين والمحدد بظروف هذا المجتمع وخصائص علاقاته الإنتاجية المادية وتاريخيتها المميزة».
هذا الكلام، ذاته، هو لشيخ قضى حياته دارساً وكاتباً ومنهمكاً في حفريات تراثنا العربي - الإسلامي باحثاً عن كنزه – كنزنا الفكري، فأكتشف أسرار النزعات المادية في الفلسفة العربية –الإسلامية، وأفشاها في موسوعة منهجية جدلية مادية تم اعتراضها قبل وصولها إلى خواتيمها الفكرية على يد النزعات الظلامية الطائفية بطلقات ملثمة حاقدة، أوقفت الرحلة المنهجية لرجل سافر بالزمن من العمامة البيضاء الى العمامة الحمراء، من النجف إلى موسكو ثم بيروت. ورسم بالقلم ثقافته الوطنية التحررية  العربية على أوراق صحف «الهاتف» و»الحضارة» و»الرأي العام» و»الساعة» في النجف وبغداد، ثم على أوراق «الحياة» البيروتية، وبعدها سلسلة المطبوعات الشيوعية اللبنانية، من «الثقافة الوطنية»، و»الطريق»، و»الأخبار»، و»النداء».. لكن الرصاصات الملثمة الحاقدة لم تستطع كسر المنهج التاريخي. ولن تستطيع وقف حركة التاريخ والمجتمع  وتطورهما.

*****

ربط الماضي بالحاضر وعلاقته بالمنهج الثوري، شكل مادة كتاب حسين مروة «النزعات المادية..» في جزئيه، الذي قدم دليلا ماديا علميا على أن مفهوم التراث يختلف بإختلاف المنهج المستخدم وبإختلاف الموقع الطبقي بين منهجين على طرفي نقيض هما : المنهج المادي الماركسي والمنهج المثالي الميتافيزيقي بكافة تسمياته وأشكاله. فمن موقع الإختلاف الطبقي ومنهجه كشف «الشهيد» النزعات المادية والثورية في التراث من خلال ربطه للتراث بتطور البنية الاجتماعية وتناقضاتها، في تلك المرحلة التاريخية، وبذلك أثبت أن ما يتضمنه التراث من مواقف مثالية أو نزعات مادية أو ثورية لم تأت من فراغ بل كانت مرتبطة موضوعياً  بتطور الواقع الإجتماعي.
تميزت دراسة حسين مروة للتراث بأنها لم تنحصر بالكشف عن ما هو مادي فيه، بل كانت دراسة شمولية للتراث حتمتها طبيعة المنهج المادي التاريخي، فالدراسة تفقد علميتها إذا أهملت أي جزء من أجزاء موضوعها المدروس، والتراث، أو أي موضوع آخر، هو من نتاج الواقع المادي الاجتماعي في نهاية الأمر. أما الميزة الأخرى التي تميز دراسته للتراث في كتابه «النزعات المادية» تكمن في كيفية تحديده للأشكال المادية أو المثالية في الفلسفة العربية – الإسلامية ، فهذه الأشكال تختلف في الفلسفة من عصر لآخر، أي أنها غير ثابتة دائمة التطور. من هذا الوعي إنطلق حسين مروة في تحديده لمقاييس التمييز بين الأشكال المادية أو المثالية في الفلسفة العربية – الإسلامية، فلم يحصرها في مقياس علاقة الوجود بالوعي بل، أيضاً، في علاقتها بالنظام الاجتماعي الذي ينعكس فيها بشكل من الأشكال، وعلاقتها، في الوقت نفسه، بمستوى تطور العلوم الطبيعية، في تلك المرحلة التاريخية، كون تطور الفلسفة، باتجاهها المادي، مرتبطاً بتطور العلوم عن الطبيعة ومعرفة قوانينها الموضوعية، وعلاقتها بالموقف من مسألة الوجود والماهية، وما لهذا الموقف من مسألة الوجود والماهية من علاقة بالنظام الاجتماعي السائد؛ مما يدل على أن تحديد الأشكال المثالية أو المادية في الفلسفة العربية – الإسلامية عملية معقدة وليس عملية ميكانيكية.

لقد صرح حسين مروة :» إن دراسته للتراث لم تكن رغبة ذاتية لأنه» ليس بالرغبة الذاتية يكون «الشيء» حقيقة أو لا يكون، ذلك بأن الحقيقة ليست ذاتية. إنها موضوعية. وإلا فليست بحقيقة إطلاقاً، بل هي وهم أو تصور.
وهذا جعل من موسوعته المعرفية دليلاً منهجياً لحل مشكلة العلاقة بين تراث ماضينا الفكري وحاضرنا العربي بكل أبعاده الوطنية والاجتماعية والفكرية. منطلقاً، من حقيقة المحتوى الثوري لحركة التحرر الوطني العربية، في حاضرها وفي آفاق تطور مستقبلها من جهة، ومن حقيقة الترابط الجوهري بين ثورية هذ المحتوى وثورية الموقف من التراث، بمعنى ضرورة كون الموقف من التراث منطلقاً من الحاضر نفسه، أي من الوجه الثوري لهذا الحاضر.

وارتكزت جدلية المنهج عنده على أساسيتين: الأولى؛ كون معرفتنا بالتراث نتاج علم وأيديولوجية معاصرين. والثانية؛ كون هذه المعرفة رغم انطلاقها من منظور الحاضر، علمياً وأيديولوجياً، لا تستوعب التراث إلا في ضوء تاريخيته.
لقد كشف وأثبت حسين مروة بوضوح منهجي علمي، في معظم كتاباته الفكرية، وبالأخص في موسوعة « النزعات المادية..» أن الصراع الطبقي هو حجر الزاوية، في تملك المعرفة والوعي والنضال من أجل التحرر. وأن معرفة التراث لا تشذ عن القاعدة، لذلك أكد على أن معرفة التراث تختلف باختلاف الموقع الطبقي بين الناظرين فيه، وأن النظرة إلى الحاضر تختلف، أيضاً، باختلاف الموقع الطبقي بين الناظرين فيه، فهناك حاضر الطبقات والفئات الرجعية الذي هو على موعد مع الأجل يتأجل، وهناك حاضر الطبقات والفئات الثورية الذي هو الممكن ضد القائم وتناقضاته، «ولكل من تلك وهذه حاضرها المتميز». باختلاف الحاضر بين الطبقات لاختلاف موقعها الطبقي فيه تختلف علاقة الحاضر بالماضي وتختلف معرفة الماضي «التراث» لاختلاف النظرة الأيديولوجية – الطبقية للتراث، بالرغم من كونه، كواقع تاريخي، واحداً. وبالتالي، فإن كشف حسين مروة للنزعات المادية والثورية في التراث حتمته الشروط المادية التاريخية لحركة التحرر الوطني، آنذاك، التي حتمت ضرورة إنتاج معرفة ثورية للتراث تنطلق من موقع الطبقة الثورية – أي الطبقة العاملة – وأيديولوجيتها التي تحدد ، علمياً، الموقف الثوري من قضايا الحاضر. فمن موقع الطبقة العاملة وأيديولوجيتها الثورية وضع حسين مروة الأسس الثورية لعلاقة الحاضر بالماضي المؤسسة لبناء المستقبل الآتي على أنقاض الحاضر الرجعي وقواه.