جهاد أبو غياضة جهاد أبو غياضة

«هدوء نسبي»: تأريخ الحرب والحب صحفياً

من جديد يضعنا شوقي الماجري في مواجهة مع تفاصيل حياتنا الدقيقة، وأمام خبايا النفس البشرية في أعقد صورها.. عند تلك المواقف البسيطة والمعقدة نسبياً، في الآن نفسه، المكونة لفحوى الطبيعة الإنسانية، يضعنا أمام إنسانية البطل ووحشية الاحتلال وبربريته؛ من دون خطابة أو شعارات خلبية ربما هي ما أوصلت حالتنا كعرب إلى ما هي عليه الآن، من شاكلة «شكلين ما بحكي» و«إرجاع ولاك أرنب» وكل فنون العنتريات والخطابة التي باتت ثيماً رائجاً في أيامنا.

يلهث كما اعتدنا عليه في أعماله بين الذات والذات.. من الإنسان إلى الإنسان، كاشفاً حقيقة ما جرى ويجري، ومؤرخاً للأزمة من منظور العاطفة في مرمى الموت و الرصاص.. رصاص الأعداء وربما الإخوة/الأعداء، وهو ما بدأه بمسلسله «الاجتياح» وأوصله للفوز بجائزة «أيمي» العالمية التي تمنحها الأكاديمية الدولية للفنون التلفزيونية كأفضل عمل تلفزيوني لعام 2009، وهي المرة الأولى التي يحصل عليها عمل عربي.

في «هدوء نسبي» يوجهنا شوقي الماجري نحو ذاك الجزء الذي لطالما شاهدناه جاهزاً معداً دون أن نلّج عالم صناعته وخباياه، عّبر عرض الحرب، لكن من خلال الصحفيين صناع الحقيقة والخبر، وأبطال إيصالهما إلى الجمهور، وبتناول لكل جوانب التجربة والظروف الذاتية والموضوعية التي تشكل العمل الصحفي، بتمازج بين الخاص والعام.. بين الهم الذاتي والمشترك.. بين ظروف الحياة الخاصة، ومفاعيلها، وتأثيرها في بناء الشخصيات وبالتالي تميز التجربة والنتاج.

تدور أحداث المسلسل حول ما واجهه الصحفيون (عرب وأجانب) خلال الحرب الأخيرة على العراق. في بغداد يستعيد الجميع خوفه وقلقه البشري من الموت الذي هو الحدث الأساس في هذه الحرب، وخاصة حين تغدو الصحافة طرفاً بالصراع عبر انحيازها للحق والمظلوم، ويترجم المخرج التونسي شوقي الماجري بمهارة فذة وتقنيات عالية ما كتبه الروائي السوري خالد خليفة (مؤلف رواية «مديح الكراهية» التي رشحت لجائزة البوكر العربية عام 2008)  بنص يمزج بين الحب والحرب، الشجاعة والخوف، المواجهة والانسحاب، البحث عن الحقيقة والهروب من وجهها وثمن الوصول إلى هذه الحقيقة. بمشاهد تنقل المشاهدين بكل صدق وشفافية عالية إلى ذاك الواقع الذي عاشه الصحفيون المتواجدون في أحد فنادق بغداد (فندق فلسطين) بعد أن وقعوا بين مطرقة القصف الأمريكي العشوائي، وسندان بقايا الدولة العراقية التي تنهار، وصولاً إلى السقوط في قبضة الاحتلال ومليشيات الأمر الواقع وبناة (العراق الديمقراطي) الجديد.

ساعات تمر على الصحفيين يقاسون فيها العزلة والحنين للوطن أو ربما الحنين للحياة بكل مفرداتها الطبيعية العادية. مشاهد لا تخلو من رومانسية مستقاة من تلازم ثنائيات التضاد الطبيعي، الموت والحياة، الحب والكره، الحرب والسلام.

يخلق الماجري هذه الأجواء عبر استخدامه لأكثر من كاميرا في التقاط الصورة، وبأكثر من زاوية في الوقت ذاته، وهو ما يجعلها حية ناطقة، فهناك لحظات لا تتكرر سواء عند الممثلين بحركة معينة، أو عبر المعارك والتفجير، وبالتالي فهو يقتنص أدق اللقطات وانفعالات الممثل وعفويته.

ويؤدي النجم السوري «عابد فهد» دور البطولة (المراسل ناجي شرف الدين) في العمل مكملاً بذلك مشواراً مميزاً مع الأدوار المثيرة التي بدأها عام 2000 مع مسلسل «الزير سالم» بدور جساس، ثم دوره الكبير في مسلسل «الطريق إلى كابل» عام 2004 والذي أوقف لتناوله المسألة الأفغانية وحياة «العرب الأفغان»، ثم مسلسل «دعاة على أبواب جهنم» عام 2006 الذي تناول الجماعات الإرهابية التي عاثت فساداً وتقتيلاً في البلاد العربية.

«هدوء نسبي» أضخم الانتاجات العربية لهذا الموسم، وهو فتح جديد يضاف إلى سجل الماجري المتميز وإلى أعماله التي باتت بصمة بحق، وان كانت صفة التميز والإبداع تنطبق على كل نواحي العمل من السيناريو، إلى الممثلين وأدائهم الرائع.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.