نبيل محمد نبيل محمد

«ضيعة ضايعة» و«بسيط»: دروس البساطة 

«ضيعة ضايعة» لم يتم اختيار هذا العنوان على أساس طباق لفظي أو تجانس أحرف أو للإيحاء بالمضمون الكوميدي الذي تحمله حلقات هذا المسلسل المنفصلة موضوعاً، والمرتبطة بنيوياً، أي من الممكن أن نسميها «منفصلة متصلة».

ينبع الاسم من كون هذه القرية «الضيعة» بالفعل هي ضائعة من حيث عدم تواصلها مع العالم الخارجي وانغلاق شخصياتها على ذواتهم وعدم وصول التكنولوجيا إليها متمثلةً بأبسط صورها كالتلفاز مثلاً، وإنما هي ضائعة إلى درجة أنها تحمل سمات القرية في بدايات القرن الحالي، لولا وجود بعض الآليات الزراعية والزوارق في بعض الحلقات، ويعبّر القائمون على هذا العمل عن مدى ضياع هذه الضيعة من خلال التقديم للحلقة بأسلوب فني يدل على أن الثورة الرقمية اجتاحت العالم إلا أن «أم الطنافس الفوقا»، بحكم ضياعها، بقيت خارجة عن هذا المنطق العلمي وبذلك يتم تجريد هذه الضيعة من مخلفات العلم ويعطي المخرج أحقية تبسيط «وغباء» الشخصيات كما يشاء دون أدنى اعتبار للمحيط العام أو للفترة الزمنية فهذه الضيعة أصلاً خارجة عن التاريخ، فالطابع العام الذي يكسوها هو البساطة بأشد صورها وذلك لسببين أولهما أنها لا تنتمي للمحيط الفكري والزمني، وثانيهما أنها بيئة ريفية، بل ممعنة في تريفها، ومن هذا المنطلق بإمكاننا أن نقارب بين هذه البيئة الريفية الزراعية البسيطة القليلة الشخصيات رغم تفرد كل شخصية عن الأخرى والتقائهم بمبدأ البساطة في النهاية، وبين بيئة مسلسل الأطفال «مغامرات بسيط» الذي ربما لا يغيب عن جيلنا وجيل من هم أكبر منا على اعتبار أنه عمل كرتوني شهير ومؤثر وذو رؤية جمالية للحياة فمعظمنا يتذكر تفاصيله من خلال عودة بالذاكرة إلى بداية تسعينيات القرن الماضي.

بسيط هذا الكائن الممعن ببساطته في التعامل مع أقرانه ومع بيئته ومكوناتها هذا الحيوان الذي يحمل من الإنسان خلاصة إنسانيته وروحه النقية الخالية من إثم المجتمع والعلاقات الإجتماعية والذي يحاول ببساطته أن يبعث الفرح والحياة الهانئة في مزرعته وفي الغابة المحيطة به من خلال تواصله مع شخصيات هذه البيئة التي هي أيضاً بسيطة جداً حتى في تصرفاتها السلبية التي لا يمكن أن نصل إلى حد تسميتها بالدنيئة، وهنا أيضاً نتذكر شخصيات «ضيعة ضايعة» فجودة يحاول دائماً الانتقام من أسعد إلا أنه يتخذ أساليب بسيطة نابعة من البيئة فلا يبدو دنيئاً ابداً بل هو يمثل الحالة الأكثر منفعية في البساطة ضمن بيئة شخصياتها كشخصيات بيئة بسيط لكل منهم مميزاته عن الآخر ضمن أفق عام هو الضيعة أو غابة بسيط.

كثيراً ما يشبه أسعد بسيط بنيته الحسنة ومشاريعه الفاشلة وطيبة قلبه في التعامل مع الآخر، وكثيراً ما يشبه رئيس المخفر «أبو نادر» عنيف في كونه مصدر إرهاب وقوة في الضيعة والجميع يرهب تصرفاته ويلجأ إليه في الصعاب، وكثراً ما تتطابق شخصية سليم «سلنكو» مع شخصية فصيح الذي يمشي مغروراً بذاته على أساس أنه الأذكى، رغم أنه من الداخل هو الأرقّ والأكثر بساطة، وكثيراً ما تشبه بديعة زوجة أسعد شخصية سريعة صديقة بسيط التي تدعمه برأيها ويتشارك مصيرهما إلى درجة أن خيبة أسعد ـ بسيط هي خيبة سريعة ـ بديعة.

كل مشاريع أسعد تعود عليه بالفشل إما بسبب تآمر جودة الذي لا تطابقه شخصية في بسيط إنما هو يمثل جميع الشخصيات عندما تحاول أن توقع ببسيط وتخرجه من المعركة مهزوماً، أو بسبب بساطته إلى درجة الغباء في التعامل مع الآخر ومع البيئة.

كما أن جودة كثيراً ما يفشل في محاولة التقويض من حظ أسعد ومنعه من التفوق  وهنا نذكر أيضاً أن بسيط توفق في بعض مشاريعه في الغابة على بساطة هذه المشاريع.

لنتخيل بسيط بمكوناته من شخصيات وبيئة قد تحلو إلى عمل درامي حي فيه البيئة واقع والشخصيات بشر ألا نصل في نهاية المطاف إلى شخصيات ممائلة لشخصيات «ضيعة ضايعة» وبيئة شبه مطابقة لها.

ولنتخيل «ضيعة ضايعة» مسلسل كرتون ألا نصل إلى «مغامرات بسيط»، ولنمعن النظر في الجمهور، فـ«ضيعة ضايعة» وبفعل عامل البساطة هو عمل غير موجه إلى شريحة معينة، بل إن شريحة الأطفال هم غالبية من شاهده على اعتبار أنهم لا يحملون عين فنية ناقدة متعمقة أو لا يبحثون عن مكامن الضعف الدرامي أو تسطيح الأفكار التي يبحث عنها الكثيرون من مشاهدي المسلسل من الكبار، لذا فالمتعة الحقيقية في متابعة «ضيعة ضايعة» كانت لدى شريحة الطفل وبعض الكبار سناً، كما أن «مغامرات بسيط» لم يكن موجهاً إلى الأطفال فحسب، فأنا أذكر أن أبي كان من متابعيه كما أغلبية آباء أصدقائي، ليس من باب الرقابة على أعين الطفل بل من باب المتابعة الحقيقية، وهنا نذكر أن برامج الأطفال في مرحلة سابقة كانت تحقق جمهوراً كبيراً من الكبار في السن لأنها تحمل رسالة إنسانية ومضموناً مقنعاً وأحداثاً ذات معنى ومغزى وقريبة من الحياة، بعيداً عن دخول الخيال الواسع والعلم والتكنولوجيا وأسلحة الدمار الشامل في برامج الأطفال الحالية.

 

لا ضير إذاً من نظرة على برامج الأطفال ومحاولة خلق مقاربات واستنباط مضامين درامية منها وتقديم أعمال مستوحاة منها، وربما هذه الفكرة لم تغب عن عقول الكثير من القائمين على المنتج الدرامي المحلي، وهنا لا نتهم أسرة ضيعة ضايعة بالاحتيال أو المقاربة وإنما جل الاعتقاد هي محض تشابه وتصادف أو تراكم رؤية بسيطة للحياة قد يكون بسيط مسهماً في تكوينها.