زكريا محمد زكريا محمد

كمال الصليبي بين الميثولوجيا والتاريخ

رحل عنا المؤرخ الكبير كمال الصليبي.

وكان الصليبي قبل أن يكتب كتابه «التوراة جاءت من جزيرة العرب» مؤرخا عاديا لا يسمع به إلا في أوساط المختصين، مثل المؤرخين عموما. لكنه بعد هذا الكتاب، وما تبعه، صار نجما.

ويمكن لنا أن نقول إنه بكتابه هذا، وما تبعه من تنويع عليه، فتح بابا جديدا. لكن هذا الباب كان يؤدي إلى طريق مغلق. الباب الذي فتحه أثار حماس الكثيرين بالطبع، وخاصة من الأدباء، الذي اندفعوا نحو دراسة التاريخ القديم. وهذا أمر جيد جدا. لكن هؤلاء غرقوا، من ناحية ثانية، وبشكل لا مثيل له، في نظريات لا معنى لها لإيجاد أصل جغرافي للتوراة. ومنهم من وجد هذا الأصل في اليمن، ومنهم من وجده في شمال الجزيرة، وربما وجده آخرون لاحقا في مكان آخر.

والفرضية الأساسية عند الصليبي في بحثه وما تلاه تقوم على الموافقة على تاريخية التوراة، والجدال حول جغرافيتها. يعني أنه قبل من حيث المبدأ بفرضية باحثي التوراة التي تقول إن التوراة كتاب تاريخ إلى هذا الحد أو ذاك. وهي فرضية خاطئة منذ البدء. فالتوراة كتاب دين، كتاب ميثولوجيا لا غير. وإذا كانت تاريخا فهي في الحقيقة تاريخ للآلهة والسماء، لا للأرض والبشر.

لذا كان جهد الصليبي في الأعوام العشرين الأخيرة محاولة لا تهدأ لتحويل الميثولوجيا إلى تاريخ. وحين كان يقر بأن التوراة أساطير، فقد كان يسعى إلى تحويلها إلى تاريخ، لكن عبر بوابة الجغرافيا. يقول في كتاب «خفايا التوراة»: «الأسطورة، على عكس القصة، لا تختلق جغرافيتها. ولو فعلت ذلك لزالت عنها صفة الأسطورة، فتحولت إلى قصة عادية. فالأسطورة لا يمكن أن تخدم غرضها- وهو الغرض الذي يخدمه التاريخ- إلا إذا كانت جغرافيتها صحيحة، كما في التاريخ. ومن هنا يمكننا أن ننطلق في البحث عن الحقائق التاريخية الكامنة في الأساطير التوراتية، وفي اليد المفتاح لفك رموزها وحل ألغازها. وما هذا المفتاح إلا الجغرافية التي لا ريب فيها للأساطير». (كمال الصليبي، خفايا التوراة وأسرار شعب إسرائيل، دار الساقي، 1988، ص 22).

والحق أنه ليس هناك ما هو أشد خطأ من هذا التصريح. فليس للأسطورة جغرافيا محددة على الأرض. وإن كانت لها جغرافيا أصلية حقا، فيجب البحث عنها في السماء لا على الأرض. يعني: من يريد أن يتتبع آثار خطا موسى، فعليه أن يذهب إلى درب التبانة، وإلى نجومها، لا إلى سيناء وفلسطين. ومن يريد أن يعرف أين ولد النبي هود، وأين مسقط رأسه، فعليه أيضا أن يذهب إلى هناك أيضا. هود شخص سماوي إلهي. وحين يتم إنزاله إلى الأرض تتكون له جغرافيا مكررة. لذا نرى هودا في اليمن وفي الشام، وفي أماكن أخرى، ربما. كما نرى أن النبي صالح يقيم في قرية (النبي صالح) قرب رام الله وبالقرب من شاطئ البحر المتوسط أيضا، وهكذا. بالتالي، من المستحيل البحث عن هود على الأرض.

كما أن أصحاب الكهف موجودون في الأردن، وفي تركيا، بل وفي فلسطين حسب بعضهم. ذلك أن أصحاب الكهف مفهوم ديني أولا. ويمكن إقامة نصب، أي معبد، لهذا المفهوم في أي مكان على الأرض. لذا فأصحاب الكهف ينامون في كهوف عديدة في المنطقة.

ليس لأصحاب الكهف جغرافيا. ليس للأسطورة جغرافيا. أو قل إن جغرافيتها مكررة في كل مكان. من أجل هذا عثر الصليبي في جنوب السعودية على أسماء تشابه أسماء التوراة. فغرق في هذا الشبه. مع أن هذا الشبه أمر عادي جدا. فالأسطورة هي ذاتها. وهي تُنزّل على الأرض في أكثر من مكان، الأمر الذي يجعلنا نجد أسماءها في كل مكان.

تشابه الأسماء يشير إلى تشابه الأساطير، لا إلى جغرافية أصلية.

الجغرافيا الأصلية للأسطورة جغرافيا سماوية. يعني أنك إذا أردت أن تبحث عن (هاجر) و(سارة)، فعليك الذهاب إلى برج الجوزاء لتجد هاجر، وإلى كوكبة الذراع على الضفة الشرقية لنهر المجرة لتجد سارة. فهاجر هي الشعرى العبور العربية التي تقيم أسفل برج الجوزاء، وسارة هي الشعرى الغميصاء، التي تقيم في كوكبة الذراع. وكذا الأمر مع ليئة وراحيل. فراحيل هي هاجر، والاثنتان رحلتا وراء زوجيهما، كما عبرت الشعرى العبور نهر المجرة وراء زوجها (سهيل اليماني). أما ليئة فقد تلبثت ولم تعبر مثل الشعرى الغميصاء. لذا فاسمها يعني التلبث والبطء. فهو من جذر (لأى) السامي. نقول: بعد لأي، أي بعد تلبث وإبطاء. ولأن ليئة والغميصاء شبيهتان فكلاهما تعاني من مشكلة في عينها. فالغميصاء غمصاء، أي ضعيفة النظر، وليئة كانت أيضا ضعيفة النظر. أما راحيل فكانت قوية النظر مثلها مثل الشعرى العبور، نجمة إيزيس.

للصليبي الراحل فضل فتح الباب. لكن عليه أنه فتح بابا مغلقا أدى بكثيرين ممن تبعوه إلى الوصول إلى لا شيء. بذا، فالأفضل من نتاجاته هي كتبه القديمة عن تاريخ لبنان وغيره. أي كتبه قبل أن يبدأ بالبحث عن جغرافيا التوراة.

 

رحل عنا الصليبي. لكنه لم يرحل إلا بعد ان جعل التاريخ موضوعا شعبيا. وحين يصير التاريخ موضوعا شعبيا، أي موضوعا يهم كل الناس، بلا بد أن يكون هذا مكسبا لنا وللتاريخ.