المراكز الثقافية الأجنبية.. رأي آخر

 رداً على ما نشر في جريدة قاسيون / الصفحة الثقافية - العدد 415 بعنوان: «عن المراكز الثقافية الأجنبية... و«الثقافة الوطنية»..

عن الدور «الثقافي» للإرساليات التبشيرية

في القراءة التي يقدمها محمد سامي الكيال للدور الثقافي الذي لعبته الإرساليات التبشيرية، ومقارنة هذا الدور بنظيره لدى المراكز الثقافية الأجنبية في اللحظة الراهنة, وذلك في مقالته المعنونة: «عن المراكز الثقافية الأجنبية... و«الثقافة الوطنية»؛ يخرج القارئ بانطباع إيجابي عن دور الإرساليات التبشيرية، وبانطباع عن المراكز الثقافية جوهره الاستهانة بدورها، وباستنتاج مفاده «الله يرحم أيام الإرساليات التبشيرية»، التي كانت تقوم بتعليم أبناء المستعمرات زبدة العلوم والفلسفة، فخلقت لديهم بذرة التحرر الفكري على الأقل.. كل ذلك نتائج إيجابية موضوعياً, بمقابل المراكز الثقافية الأجنبية الحالية التي لا تقوم بأي دور سوى محاولة جذب النخب الثقافية وربطها معنوياً بثقافة ولغة بلدان تلك المراكز، وهذه العملية لا تدخل أبداً في إطار السعي لتكوين فئة مثقفة مرتبطة بها عضوياً تلعب دور الممهد للغزو السياسي الاقتصادي.

ننطلق في نقدنا للقراءة التي قدمت عن الدور الثقافي للإرساليات التبشيرية بأنها ناقشته بمعزل عن الدور السياسي، مما أوصل الكاتب لنتائج مبالغ فيها عن أثرها الثقافي وخلقها لما أطلق عليه «بذور التحرر (الفكري على الأقل)», فالمشاريع السياسية التي حملتها الإرساليات ولعبت دور عرابها على أرض الواقع ووجدت مفاتيح تنفيذها, هذه المشاريع هي التي أسست لحقبة التبعية التي مازلنا نعيشها حتى الآن بالمعنى الاقتصادي والاجتماعي والسياسي وما يستتبعه من تبعية فكرية, فهي إذا كانت قد خرجت بطرس البستاني, فإنها وبسبب المشاريع السياسية التي لعبت دوراً رئيسياً في تثبيتها على أرض الواقع, فقد لعبت دوراً أساسياً في مآل حركة النهضة العربية، ووأدت إمكانية ظهور آلاف من منتجي الفكر والعلم وتكوين حالة ثقافية متمايزة بنسفها للشروط الموضوعية المنتجة لهذا التمايز, فـ«بذرة التحرر» تزرع في الأرض وليس في السماء على ما لمطر السماء من أهمية «بالمناسبة  المطر هو نتاج تبخر المسطحات المائية على سطح الكرة الأرضية»!.على أننا لا ننكر الدور الذي لعبته الإرساليات بالانفتاح على نتاجات الغرب الفكرية والعلمية منطلقين من الاستقلالية النسبية للبنى الفكرية عن الشرط الاقتصادي الاجتماعي, لكن عدم فهم ديالكتيكية العلاقة بين الثقافي والسياسي في موضوعنا هذا، يقود إلى إعطاء الثانوي دور الرئيسي وتغييب المحرك الأساسي للتحرر الفكري, وإن عدم مناقشة الثقافي بعلاقته مع السياسي، يوقعنا في مطب الميتافيزيقيا من ناحية عدم تناول العوامل المؤثرة بترابطها.

 

عن الدور الثقافي- السياسي للمراكز الثقافية الأجنبية

بداية، لابد لنا من التذكير أن هذه المراكز هي جزء من المؤسسات الحكومية لبلدانها، وهي ليست مؤسسات مستقلة, وبالتالي فهي، بكل أشكالها، ليست فوق الصراع السياسي وعمقه الطبقي سواء على صعيد المجتمعات المحلية لهذه المؤسسات أو على الصعيد العالمي، وبناء على ذلك لا يمكن قراءة دور هذه المؤسسات إلا بترابطها مع مصالح وسياسات الطبقة المسيطرة في بلدان هذه المراكز الثقافية.

بناء على ما تقدم، لا يمكن لنا فهم دور هذه المراكز الثقافية إلا بربطها مع الأجندة السياسية لبلدان المنشأ والدور السياسي المنوط بها في معادلة الصراع العالمي في عصر أزمة الرأسمالية، ولا نستطيع قراءة وفهم التغيرات التي تطال طبيعة أنشطة هذه المراكز وسقف الخطاب المقدم عبرها وتغيراته إلا مع التغيرات في العلاقة السياسية بين بلدان هذه المراكز وبلدنا. بالإضافة إلى الثقل النسبي لبلدان هذه المراكز في خارطة القوى العالمية. وإذا كنا نتفق مع المقالة على ما أحدثه تطور وسائل الاتصالات من نقلة نوعية في أساليب الغزو الثقافي وتدمير الثقافات المحلية, إلا أن هذا الدور لوسائل الاتصالات ليس مبرراً كافيا لتخلي الدول الرأسمالية عما هو متاح لها من منابر: «المراكز الثقافية». بالإضافة إلى أن القضية  ليست مسألة غزو ثقافي - وإن كان هذا العامل حاضراً - بقدر ما هو دور سياسي ثقافي قد يتدرج من تنظيم عملية «سرقة العقول»، إلى تغريب منتجي الثقافة (أي ربطهم عضوياً بمشاريع المركز)، إلى إعطاء مؤشرات حول درجة حرارة المجتمع، إلى الجاسوسية بكل أشكالها... وذلك على سبيل الذكر لا الحصر.

وإذ كنا نتفق مع المقالة على أن «سبب بروز دور بعض المراكز الثقافية يرجع إلى اهتراء المؤسسات الوطنية، وهكذا تملأ المراكز ذلك الفراغ وتقوم بدعم بعض الأنشطة والمشاريع الثقافية المحدودة»، لكن يجب النظر إلى حجم ونوعية أنشطة هذه المراكز بحركيتها لا باللحظة التي وصلت إليها الآن، وبالتناسب مع ازدياد تراجع دور الدولة في كل المجالات ومن ضمنها الثقافي، وبالتغيرات السياسية على الصعيد العالمي.

أما عن أثر هذه المراكز على الحياة الثقافية والإنتاج الثقافي  فلا يمكن قراءته إلا من خلال الدور المحدد الذي تلعبه منافذ عرض وتوزيع الإنتاج الثقافي على عملية إعادة إنتاج الثقافة واتجاهاتها ومضمونها, ومن المعروف أن هذه المراكز «منافذ التوزيع والعرض» ليست مرتبطة بآلية السوق وحسب، وإنما بأجندة سياسية أيضاً، وخلفية فكرية جل اعتقادها بالتفوق الأوروبي على صعيد إنتاج الفكر والثقافة وما يستتبعه من إملاء مسارات التطور علينا في جميع المجالات ومن ضمنها الفنية، حيث يتم تشجيع وتنمية أنماط فنية يتم التقديم لها كأخر أساليب وتقنيات الفن «الحر الحداثوي»، وتُقدم كوصفات مطلقة لكل زمان ومكان دون أن يحضرهم أن أشكال وعي هذه «الفنون» ومضمونها مرتبطة بظرفها المادي الاجتماعي المنتج لها، ومع اختلاف الظرف المادي الاجتماعي من الطبيعي اختلاف هذه الأشكال ومضامينها وسياق تطورها, حيث تتوضح هذه العملية لكل متابع لنشاطات هذه المراكز من حيث انتقائيتها وعدم إعلان معايير الرفض أو القبول التي تتوضح في النهاية من خلال نوعية المعروضات ومستوى «معاصرتها» أو «حداثتها».

من خلال هذه المعالجة فقط يتم الحكم على إذا ما كانت هذه المراكز تلعب دوراً في إيجاد نخبة مثقفة مرتبطة عضوياً بالمشاريع التي تحملها تلك المراكز ببعدها السياسي, فالحكم على مدى الارتباط العضوي لمثقف ما بمشروع دون آخر يحدده بشكل أساسي شكل ومضمون إنتاجه, وإذا كانت هذه المراكز تسهم بعملية تغريب (من اغتراب) جزء من المثقفين وإنتاجهم وعزله عن مجتمعاته لعدم محاكاة المضامين والأشكال المقدمة بها هذه الأعمال للواقع الاجتماعي ومشاكله المحورية الحقيقية, فلا يجب أن يكون الرد على هذه المشروعات الإمبريالية بالمعنى الثقافي إلا بالتأسيس لمشروع ثقافي وطني حقيقي بعيدا عن اللطميات والانتحاب على اهتراء هذه المؤسسات وتحميل المسؤولية للسلطات وخطابها الأحادي والمهادنة مع أو الرضا بالواقع القائم, فإن أولى الخطوات على هذا الطريق تقديم قراءة صحيحة لواقع الحياة الثقافية، والأطراف والعوامل المؤثرة على اتجاهات تطورها الحالية. ولا يساورنا أي وهم حول إمكانية النهوض لمشروع كهذا دون ترافق العمل عليه مع النضال السياسي لتأمين المقدمات المادية «الاقتصادية-الاجتماعية والسياسية» التي تشكل حاضنة إنتاج ثقافي وطني وشرطاً لازماً له.