جهاد أبو غياضة جهاد أبو غياضة

في غياب أنيس الصايغ: (أنيس) مركز الأبحاث.. (صايغ) الهوية

ربما قدر الفلسطيني ألا يموت موتاً عادياً، فإما يقتله عدوه وهو صامد في أرضه، أو يقتله الوجد، وجلاده الغربة والمنفى القسري..
رحل أنيس الصايغ وهو يحلم ببيت تركه في طبريا مسقط رأسه، وبعودة لطالما بشر بها، ولم يخامره أدنى شك فيها، فهو القائل: «ما دمنا نناضل وما دامت لدينا قيادات كفوءة لا تساوم.. سأبقى أؤمن بالعودة إلى طبريا، وسيظل حلمي الدائم هو العودة إليها, وهذا يجعلني نظرياً ونفسياً في طبريا, رغم الاحتلال».

لا أحد يعلم إن كان قد حلم القس الإنجيلي السوري عبد الله الصايغ حين هم بتأسيس عائلته بزواجه من لبنانية؛ بأنه سينجب عائلة من رهبان وآباء الثقافة الفلسطينية بل والعربية بامتياز، وربما هذا الأصل المختلط هو ما جعل قساوسة بيت الصايغ الأربعة/ الأخوة ما كانوا عليه. فأكبرهم الأستاذ يوسف الصايغ ألف عشرات الكتب في الدراسات الاقتصادية وغيرها، وترأس اتحاد الاقتصاديين العرب. أما القائد والمفكر فايز الصايغ فقد كان عميداً للإذاعة في الحزب السوري القومي الاجتماعي، ثم عضواً في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية. والشاعر توفيق الصايغ كان من كبار رواد الشعر العربي الحديث، وصاحب مجلة «حوار» التي أضافت بصمة مهمة في الحياة الأدبية العربية في ستينيات القرن الماضي. وآخر الشاهدين الدكتور أنيس الصايغ الذي ربما ما كانت مصادفة أن يختاره الرحيل في يوم ميلاد المسيح، وفي خضم الذكرى الأولى لحرب غزة التي كشفت هشاشتنا كأمة آمن بها، وأهداها جل عمره، وعصارة فكره وقلبه.. والآن روحه.
من أطرف أخبار هذا الرجل حسب مذكراته، هي قصة لقب الدكتور الذي ناله وما كان قد حصل على شهادة الدكتوراه بعد، بل ولم يكن قد حصل على الشهادة الجامعية حتى، فقد بدأ العمل بالصحافة وهو ما يزال طالب علوم سياسية في الجامعة الأميركية بيروت. ووقتها كان يذهب مع زميله هشام أبو ظهر إلى مكاتب جريدة «الحياة»، وينتظران خروج صاحبها كامل مروّة. ليدخلا ويسألا عنه وحين يأتيهما الجواب بأنه غير موجود، يتركان ل مقالاتهما وينصرفان. لأن أنيس كان يخشى أن يُكتشف أنه طالب صغير السن يكتب في موضوعات أكبر منه، لكنّه الجواب نشر مروّة لمقالاته وإضافته لقب «الدكتور» إلى اسمه. وحين أوضح له في مقالة لاحقة أنه ليس دكتوراً، استمر في منحه اللقب ظنّاً أنّه يتواضع، إلى أن قام أستاذه نقولا زيادة بالاتصال بمروّة، فعاد اسم أنيس الصايغ من دون لقب الدكتوراه الفخري. ولكن معجزات هذا الشاب لم تكن إلا في طور النشوء. فقد نشر أول كتبه «لبنان الطائفي» سنة تخرُّجه 1953. ثم عمل محرراً في جريدتي«النهار» و«الأسبوع العربي» حتى التحاقه بجامعة كامبردج لنيل شهادة الدكتوراه عام 1959. وخلالها كرس أنيس نفسه كأحد أهم الباحثين السياسيين والتاريخيين العرب فنشر كتباً أخرى منها(جدار العار، سورية في الأدب المصري القديم، الفكرة العربية في مصر، تطور المفهوم القومي عند العرب،من فيصل الأول إلى جمال عبد الناصر: في مفهوم الزعامة السياسية، الهاشميون والثورة العربية الكبرى وقضية فلسطين، فلسطين والقومية العربية، ميزان القوى العسكري بين العرب واسرائيل، بلدانية فلسطين المحتلة: 1948 - 1967، المستعمرات الإسرائيلية منذ 67، الجهل بالقضية الفلسطينية: دراسة في معلومات الجامعيين العرب عن القضية الفلسطينية، رجال السياسة الإسرائيليون، 13 أيلول- الخطأ والصواب، الوصايا العشر للحركة الصهيونية، نصف قرن من الأوهام)، وعمل في تحرير عدد من الموسوعات والقواميس وأسس الكثير من المجلات كـ«شؤون عربية» و«المستقبل العربي»، ثم بدأ مشروع حياته وربما الحق أن نقول ولداه الشرعيان ، حين وصلته وهو في لندن برقية من شقيقه فايز الذي كان قد أسس مركز الأبحاث في «منظمة التحرير الفلسطينية» أوائل عام 1965، يطلب منه الاجتماع مع أحمد الشقيري، رئيس المنظمة وقتها، للبحث في مشروع إصدار موسوعة فلسطينية. ثم قدم فايز استقالته، وكُلف هو برئاسة المركز والعمل على إنجاز الموسوعة. ومن وقتها صار «مركز الأبحاث الفلسطيني» ومجلة «شؤون فلسطينية» أهم انجازات الثورة الفلسطينية الثقافية، ومنارة في المشهد الثقافي العربي المقاوم، بفضل إدارة الصايغ الأشبه بالكهنوتية. فكان لابد من الاعتراف بفضله حتى من جانب العدو الذي أقدم على اغتياله أكثر من مرة، أبرزها كانت الرسالة المفخخة التي بترت أصابع يده وأفقدته بعضاً من حواس، السمع والبصر والشم واللمس، وحين فشل اغتال المركز بقصفه عدة مرات، ثم نهب محتوياته وتدميره عام 1983، أما الولد الثاني فكان «الموسوعة الفلسطينية» التي  رأس تحريرها حتى عام 1993، وهي تعدّ أهم مرجع لقراءة تاريخ فلسطين القديم والحديث وتاريخ القضية الفلسطينية.
كان أنيس الصايغ من أول من نبه من مخاطر التراجعات في الأهداف الإستراتيجية للأمة و تغليب التكتيكات العشوائية بالتوقيع على صلح منفرد مع كيان العدو والتوقيع كاتفاقيات «كامب ديفيد» التي أخرجت مصر من معادلة الصراع العربي الصهيوني وأسست لانقسام الأمة وشكلت المقدمات المشبوهة لتوقيع وادي عربة و أوسلو لذا تعرض للكثير من الاشكالات وخاض الكثير من السجالات الفكرية مع النهج اليميني التسووي في المنظمة وخصوصاً بعد قيام سلطة رام الله. فقد كان بحق النقيض الأساسي لفكرة مثقفي المقاهي، والحفلات الثورية، وعقلية اليمين المتنفذ في منظمة التحرير.
حين نقرأ رحيل أنيس الصايغ  لا نكون نكتب عن رجل بقدر ما نرثي مشروعاً وفكراً مميزاً في الأدب والسياسة فقد كان لفعل كلمات هذا الرجل الضئيل القامة، المتقشف الزاهد، إنسانيا وتاريخياً فعل الرصاص.
أنيس الصايغ.. السلام على أصلك يدحض سايكس بيكو، ويزيل كل حدود الخوف العرجاء.
السلام عليك تموت وتبعث إلى حضن طبريا مبشراً.. حياً.