إنها سورية أيها «المستر» جون!!

إنها سورية أيها «المستر» جون!!

من يقرأ حديث جون برينان، مدير المخابرات المركزية الأمريكية CIA، الذي نشرته شركة «ياهو»، يوم الخميس 14/ تموز، والذي عبّر فيه عن «ارتيابه في قدرة واشنطن على فهم الشرق الأوسط»، لا بد سيرتاب، لا بقدرة واشنطن وحدها، بل وأيضاً بقدرة برينان نفسه، على فهم العالم الذي يعيش فيه، والذي – ودون أدنى شك- يصعب تفسيره بأفلام هوليوود وأبطالها الخارقين الذين من طراز المستر جون..

 

ستند المستر في حديثه عن «عدم فهم واشنطن للشرق الأوسط»، على فكرة مفادها أنّ واشنطن إذ تحاول نشر الديمقراطية شرق المتوسط، فإنّ ما يفوتها هو أن مجتمعات هذه المنطقة هي بطبيعتها بعيدة كل البعد عن الديمقراطية: «أعتقد أن هناك بعض الناس في واشنطن لا يفهمون بما فيه الكفاية خصائص الشرق الأوسط وبيئتها، ويركزون جهودهم على دمقرطة المنطقة. بينما مفهوم الديمقراطية الغربية أمر غريب تماماً، بالمعنى الحرفي والمجازي عن عدد من مناطق العالم». وأنّه «قبل جيلين فقط، بل حتى جيل واحد، كانت هذه مجتمعات رُحّل، ذات تقاليد راسخة الجذور في الثقافة، ونظرة ريفية إلى العالم»!

تغيب بعض الحقائق التاريخية البسيطة عن ذهن المستر، ولا ضير بذكرها هنا، لأنها ربما تغيب أيضاً عن ذهن بعض القراء.. تم منح حق التصويت للمرأة السويسرية لأول مرة عام 1971! ومعلوم أن سويسرا هي «فاترينا» الحريات والديمقراطية وإلخ.. أما في فرنسا، فقد منح هذا الحق لأول مرة عام 1936.. على ضفة العالم الأخرى، حيث «التخلف والبربرية وإلخ»، وفي سورية تحديداً، التي تنتمي لبلدان «الشرق الأوسط» وفقاً للتسمية الاستعمارية البريطانية- الأمريكية، التي تصنف الجهات والأبعاد انطلاقاً من تموضعها الجغرافي، فيغدو الشرق شرقاً أدنى وأقصى وأوسط.. في سورية «التي تملك نظرة ريفية إلى العالم..»، حصلت المرأة على حق التصويت عام 1926! أي قبل فرنسا التي كانت تستعمرها في حينه، بعشر سنوات (وذلك استباقاً على نظرات سطحية وبائسة تستسهل القول أن الاستعمار هو من جلب لنا ثمار الديمقراطية!)، وقبل سويسرا بخمس وأربعين سنة. هذا إلى جانب أن أول دستور سوري وضع عام 1920، وهو دستور بمنطقه العام وبنيته الداخلية، دستور شبه علماني، وعلى الأقل هو أكثر علمانية من الدستور الحالي وسابقه!

إلى جانب هذه الحقائق، نضيف: تم إقرار حق التصويت للمرأة في القسم الفنلندي من روسيا –وتحت الحكم القيصري- عام 1906. ومع انتصار ثورة أكتوبر الاشتراكية عام 1917، تم إقرار حقوق متساوية بالكامل للرجل والمرأة، بما في ذلك حق الترشح والتصويت.

نذكر هذه الحقيقة الإضافية للتأكيد على مسألتين: الأولى هي أنّ هوليوود، وكما أسلفنا، لا تنفع البتة لفهم العالم، سواء في القرن العشرين أو في غيره، فالروس والشرقيون عموماً يحضرون في هوليوود بوصفهم «الأشرار المتوحشين البربريين».. والأساس السياسي لهذا الشكل من الحضور مفهوم في سياق الصراع.

المسألة الثانية، هي أن وصف المستر لبلداننا بأنها «ذات نظرة ريفية إلى العالم» لا يخلو من صحة، ولكن بعد أن يوضع بالشكل التالي: بلدان الشرق لم تفقد حتى اللحظة نظرتها المشاعية للعالم! فهي لا تزال ترى الطبيعة والأرض ملكاً للبشر جميعهم، وخضوعها للقيم الرأسمالية المتوحشة، قيم الربح والجشع والأنانية والفردية، يتخلله إحساس عال بالاغتراب عن الطبيعة وعن «الأخلاق الحقيقية والصحيحة»، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإنّ المرأة في مجتمعاتنا «الريفية ومن ثم المدنية» هي امرأة عاملة ومنتجة، فلاّحة وعاملة في معمل وموظفة وإلخ، وليست «مانيكاناً جنسياً» كما تسوقها الرأسمالية.. ولما كانت المرأة الشرقية عموماً، والسورية خصوصاً امرأة منتجة، فإنّ موقعها الاجتماعي القوي هو مسألة طبيعية، وهو ما يفسر -وإن جزئياً- التواريخ التي ذكرناها أعلاه.

إنّ مشروع وأهداف «نشر الديمقراطية الأمريكية» وتجلياته الأفغانية والعراقية والليبية وغيرها، ليست محل نقاش بالنسبة لأي عاقل، لكن ما ينبغي الانتباه إليه، وبعيداً عن وقاحة المستر جون، هو أن جوهر حديثه هذا ليس سوى التفافاً، الغرض منه هو القول: «مشروعنا فشل.. وينبغي صرف النظر عن منطقة الشرق الأوسط».. وفي هذه النقطة تحديداً يستحق المستر جون أن نرفع له القبعة لفهمه أن أمريكا ماضية في تراجعها قدماً، وإن كانت عجرفته تشير إلى عدم استيعابه بأية سرعة كارثية يجري ذلك التراجع.

على ضفة أخرى، وربما على الضفة نفسها ولكن قبل الرمال بقليل وبين الطحالب، تظهر بروباغاندا الأنظمة السائدة في منطقتنا بوصفها تكراراً ببغائياً لدوغما المستر جون، فشعوب منطقتنا هي: «شعوب متخلفة ولا تليق بها، لا حرية ولا ديمقراطية»، ولكن «الأسود يليق بها»، الأسود الذي صُبغت به أيامها ولياليها على يد الأمريكان ونظام نهبهم العالمي وتفرعاته، والتي تمثل النظم الاقتصادية السائدة في بلداننا جزءاً منه.. وإن كان للتاريخ مساوئ كثيرة، فإنّ له أيضاً حسناته الكبرى، وعلى رأسها أنّه بسيره المستمر إلى الأمام، سيضع واشنطن، وفروع واشنطن، في المكان المناسب لها تماماً..

 

(هذه المادة هي استكمال وتوسيع للمادة المنشورة في موقع قاسيون الالكتروني تحت عنوان: فلنرفع القبعة للمستر جون مدير CIA، بتاريخ الخميس 14/7)

 

آخر تعديل على الثلاثاء, 19 تموز/يوليو 2016 12:49