الصحافة العربية اليوم إلى من تتوجه؟!

الصحافة العربية اليوم إلى من تتوجه؟!

ما زال ذاك الجد يجرجر أقدامه كل صباحٍ إلى الدكان كي يشتري جريدة اليوم. يفتح عقله، ويوسّع صدره كي يقرأ ما قد يكتبه شبّانٌ في عمر حفدته. هو طقسٌ ربما، والطقوس أحياناً تفرغ من معانيها، لكن ممارسيها يبقون أمينين على تكرارها يوماً بعد يوم. هناك غواية ما في انتظار الجريدة كي تصل إلى المطبعة وتخرج في اليوم التالي بآلاف النسخ التي تنتشر عبر المدن والبلدات، لكن متى توقّفت الصحافة عن أن تكون مهنة الغوايّات؟!

ما زال في الأرياف القصية والمناطق المنكوبة أناسٌ ينتظرون من يخبرهم عما يحصل في بلدانهم. قد يكون من العصي على البعض التصديق بأن العالم لم يصبح «افتراضياً» بالكامل، لا يمتلك الجميع صفحة على الفيسبوك، ولم يصبح تصفّح كبريات الصحف العالمية بنسختها الإلكترونية جزءاً من العادة. لكن هؤلاء جميعهم باتوا مهمّشين اليوم. الصحف لم تعد تستهدفهم، ولا تعبأ ما إذا كانت نسخة اليوم ستصلهم أم لا، هو انحرافٌ ربما في مهمة الصحافة العربية ووظيفتها الاجتماعية والسياسية، خاصةً وأن السؤال في السنوات الخمس الماضية بات أكثر إلحاحاً: إلى من تتوجه الصحافة العربية حقّاً؟ وبمن تؤثر وكيف؟

تتكرر اليوم نكّات تسخر من الدرك الذي وصلت إليه الصحافة، حينما أصبحت وفق التعبير الدارج «شغلة إلي ما لو شغلة». خاصة مع الانفجار الحاصل في عدد المنابر الإعلامية، الإلكترونية والورقية، التي باتت تدفع بسخاء للكتاب الجدد. حتى أنه يمكن القول، أنه وضمن المهن التي راجت في الحرب -إلى جانب تجارة الأسلحة وتهريب البشر- الصحافة تصدرت القائمة. وللمفارقة، ازدياد المنابر الإعلامية لم يشبع الحاجات الاتصالية لشرائح كبيرة من المجتمع، وتحديداً الفئات الأكثر تضرراً. ففي الشأن السوري مثلاً، يحق لنا طرح السؤال حول المنابر الحقيقية التي تخاطب المهجّرين والنازحين، وسكان المخيمات وطالبي اللجوء، بالرغم من أن هؤلاء يشكلون المواد الأكثر تفضيلاً بالنسبة لوسائل الإعلام العالمي والعربي. كما لو أن الفئات المتضررة حقاً من الحرب أصبحت موضوعاً لوسائل الإعلام، بدلاً من أن تكون جمهوراً لتلك الوسائل. 

ذلك كله أعاد فتح الجدل حول أثر الصحافة؛ ما المنفعة التي تحققها حتى تستحق الأموال التي ما زالت تُضخ لضمان استمرارها؟ وإلى من تتوجه تلك المنابر؟ خاصة وأن الإلكترونية منها تستهدف جمهوراً محدداً من مستخدمي ومتابعي صفحات الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي. 

يقتنع الكثيرون اليوم بأن المنابر الإعلامية الموجودة حالياً، سواء كانت ورقية أو إلكترونية، لا تستهدف رجل الشارع العادي. لا أحد يأبه بالعجوز الذي يجرجر أقدامه كي يشتري جريدة الصباح. صحف اليوم تستهدف تثبيت المواقف، وإعلانها، هي مساحة تمهيد للتغيّرات السياسية القادمة، أو منبر لإيصال الرسائل المبطنة التي يتبادلها أصحاب القرار. 

من جهة أخرى، قد تكون إحدى ثمار المرحلة التاريخية الحالية، بما تشهده من تقلبات سياسية واقتصادية، أنها استطاعت محو بعض الأوهام حول وجود منابر صحفية،  قد تعمل “لوجه الله”  كرمى للحقيقة، دون أن تكون مربوطة بالأجندات السياسية والفكرية لمموليها. 

تكاد تكون الصلة المباشرة بين مصادر التمويل والمنابر الإعلامية أوضح من أي وقتٍ مضى. هي سمة المرحلة ربما، في الابتعاد عن التوريات، والوضوح الفج في التعبير عن المصالح. بات جلياً أن «المزمار» لا يعزف من تلقاء نفسه، دون فمٍ ينفث فيه الهواء. والأهم من ذلك أن العازف هو من يختار اللحن. هنا ربما لا بد من التفريق، بين الصحفي الفرد، وبين الصحافة كأداة سياسية واقتصادية، فبعض نوايا الصحفيين الشجعان في العمل لخدمة الناس وكشف مواضع الفساد لا ينبغي أن تكون موضع شك. لكن هؤلاء يصطدمون اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى بحاجز التمويل، والأجندات السياسية والتحريرية للجهات التي يعملون بها. تجاهر صحف اليوم بتبعيتها إلى الجهات التي ترعاها بحيث يصعب تجاهل هذا الأمر أو تجاوزه، الاصطفافات اليوم أوضح من أي وقتٍ مضى، حيث يتجه المشهد الإعلامي إلى المزيد من التكتل، بحيث تهيمن أسماء محددة على إدارة وتوجيه منابر إعلامية تبدو في الظاهر متمايزة ومتنوعة. 

 بات واضحاً أن المؤسسات الإعلامية تؤدي وظائف محددة، وأن بقاءها مرهونٌ بجدوى تنفيذها لمهامها. تلك المؤسسات توضع كل يومٍ على الميزان، وفي اللحظة التي سترجح فيها دفة اللاجدوى، ستتوقف تلك المنابر عن العمل. ذلك ما أثبتته عمليات التسريح الكبيرة لعدد من موظفي مؤسسة الجزيرة وإغلاق قناتها الجزيرة أمريكا. هذا إلى جانب الأزمات التي تعيشها عدد من الصحف اللبنانية والعربية، وليس انتهاءً ببعض كبريات الصحف العالمية التي تخلّت عن اصداراتها الورقية واكتفت بإصدارات إلكترونية. 

في المحصلة، قد يصعب اليوم إطلاق صفة محددة عن الصحافة العربية اليوم، وهي التي كان الكثير من منابرها، في مراحل تاريخية محددة، أداةً تقدمية أو حتى تحررية. لكن المؤكد أن حالة «اللاعدالة» التي يفرضها واقع المنافسة وسطوة المال ينعكس اليوم بوضوحٍ على المشهد الإعلامي الذي بات أكثر تمركزاً، وأبعد عن حلم « حق الجميع في التعبير وامتلاك المنابر التي تمثلهم وتوصل كلمتهم». الإعلام البديل بات اليوم مطلباً جدياً، لكن لا يقصد به استبدال القديم بالجديد، والتقليدي بالمتطور، بل يقصد به أن الشعوب ستخلق مع الوقت بدائلها للتعبير عن مطالبها، وستوجد وسائل الإعلام التي تشبع حاجاتها الاتصالية والمعرفية.