«المسرح الجسدي»  «زيارة ذاتية» إلى دمشق من بوابة الاغتراب!

«المسرح الجسدي» «زيارة ذاتية» إلى دمشق من بوابة الاغتراب!

على مسرح فواز الساجر، في المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق، ولثلاثة أيام على التوالي، 14-15-16 من الجاري، تم تقديم عرض «زيارة ذاتية» لمخرجه ومؤديه حسين خضور، عن رواية الحمامة للكاتب الألماني «باتريك زوسكيند»..

المسرح مهرجاناً يصهر الفنون في قالب واحد، ولكن ميزته الأساسية هي الدمج بين الرقص والتمثيل بأنواعهما، في كل واحد يحمل الحكاية بوجهيها: الدرامي، والنفسي- الوجداني، معتمداً على حركة جسد المؤدي.

ولم يسبق لهذا النوع الفني أن دخل جدياً إلى سورية، كما أنّه لا يدّرس ضمن المعهد العالي، الذي يعد مركز العمل المسرحي، إذ يوجد فيه أقسام عدة، بينها المختص بالتمثيل والمختص بالرقص، في حين لا يوجد قسم مختص بالمسرح الجسدي الذي يمزج بين الاثنين، علماً أنّ قسماً من هذا النمط بات موجوداً منذ عقد على الأقل في معظم كليات ومعاهد الفنون الأوروبية.


«الاغتراب» و«الانفتاح»!

يعيد العرض الذي امتد لـ45 دقيقة، ترتيب حكاية «جوناثان»- الحارس الخمسيني لمصرف في فرنسا- الذي غدا اسمه السوري «عبد الله»، مهتدياً بما اعتبره المخرج والمؤدي، الخط الأساسي ضمن الرواية، وهو الاغتراب، فيما يمتد زمن السوري للحكاية بين 2005 و2010، ما يحمل دلالات إضافية عميقة، وخاصة مع التسمية التي اختيرت للبنك الذي يحرسه عبد الله: «بنك الانفتاح»، في إشارة واضحة لمرحلة اللبرلة السريعة التي دخلتها سورية عام 2005 تحت مسمى اقتصاد السوق الاجتماعي، وبوصفها إحدى الأسس الهامة لما يجري في سورية منذ 2011..
يفرد العرض بمشهديته الكثيفة الشخصيات المتراكبة التي يحملها عبد الله، فهنالك الشخص الاعتيادي المملوء سأماً ولامبالاة، وهو السطح الذي يتبدد بدخول الحمامة، سامحاً للجمهور بالولوج تدريجياً، ومع تقدم العرض إلى الشخصيات الحدّية الأعمق، فنرى الصراع الجسدي بين عبد الله النائم ومنبهه، وبين الحمامة نفسها وأصيص الزهر الذي تنظر نحوه ويبول فيه عبد الله متشنجاً وباكياً، في تحدٍ بائس للحمامة، ثم بينه وبين بذلة الحراسة الرسمية المعلقة في منتصف المسرح، والتي تمارس سلطتها- سلطة صاحب العمل عليه، فتسوقه من عنقه دائرة به المسرح، بما يشبه مشهداً من مشاهد العبودية القديمة، ثم ينفصل عبد الله عن البذلة مديراً ظهره لها، وملتصقاً بالحائط وجهاً لوجه، ليدخل حالة هستيرية من التشنج، ينتقل منها إلى رقص متوتر مع أنثى وهمية، ويبدو بمثابة كشف أولي عن إنسانيته العميقة التي تغيب في حضور البذلة.


«الحارس البطل» غير مبالٍ

يتقدم العرض بعد ذلك ليصور يوم عملٍ اعتيادي لعبد الله أمام المصرف. يوم العمل يبدأ غريباً بشخصية ثالثة يتضح أنها الصورة الوهمية التي يرسمها الحارس لنفسه حول أهمية مهنته وحيويتها، فيمارس طقساً بوليسياً يشبه الأفلام الأمريكية بنظارة شمسية وحركات قتال وتأهب استعراضية، سرعان ما تتوقف، ليعود عبدالله إلى واقع بائس يضطره للوقف كالصنم بمحاذاة باب المصرف، وبإحساس عميق أنه بلا جدوى.
ينتهي يوم العمل بعبد الله في غرفة فندق يستمع إلى حوادث ومصائب مدينته، عبر جهازه اللاسلكي، يستمع بتهكم واستخفاف ولا مبالاة، بينما يتناول «كنتاكي» ويشرب «كوكا كولا»، ليكثف بذلك حالة الاغتراب العميق عن الذات وعن المجتمع، وحالة الفردانية المطلقة التي ترافق نمط معيشة محددة رموزه: «بنك الانفتاح» و«كنتاكي» و«كوكا كولا»..
ينام الحارس متعباً، ليوقظه الرعد والبرق مذعوراً، حيث تصل الحبكة إلى ذروتها، يأتي بعدها المطر الذي ينفرط معه حجر العقد، ليظهر عبد الله الحقيقي المتماهي مع الطبيعة وفرحها راقصاً وسابحاً عبر المطر، مبتهجاً وحراً..
ينتهي العرض بسقوط ريشة من أعلى، يرقبها الحارس بسرور بادٍ، في كناية عن طيران الحمامة الحر، وعن انعتاقه هو من سلطة البذلة- المصرف- رب العمل، وربما أشياء أخرى.. الانعتاق الذي لن يستمر أبعد من حدود الليل..


اغتراب أكثر تعقيداً!

لعبت الإضاءة دوراً متواضعاً نسبياً، فهي، وإن شكلت سياقاً حاضناً للحكاية وللحركة، إلا أنّها لم تلعب دورها المستقل الناضج، وربما يعود ذلك لإمكانيات مكان العرض، خلافاً للمرة الأولى التي عرضت فيها «زيارة ذاتية» في دار الأوبرا في نيسان الفائت. بالمقابل فإنّ تبيئة العمل سارت خطوات معقولة إلى الأمام، وإن كان عبد الله لا يزال غريباً في عدة مناح عن المجتمع السوري، فدرجة الاغتراب التي يعيشها الحارس وشكل اغترابه لا يزالان بعيدين بعض الشيء عن واقع الاغتراب السوري.
لا تزال الموسيقى تحتاج جهداً إضافياً لتعبر عن الاغتراب وعن الانعتاق ضمن البيئة المحلية، فلما كانت الموسيقى بمعظمها غربية الطابع- من حيث التوزيع على الأقل- فقد عبرت بشكل معقول عن الاغتراب، لكنّها- كما نعتقد- لم تستطع تجسيد انعتاق الحارس أمام مصرف خاص في أحد شوارع دمشق الرئيسية، فربما كان مفيداً أن تدخل بعض لمسات شرقية الهوية على الموسيقى.
مخاطرة!
بالإجمال، يشكل العرض مخاطرة جدية لثقل الموضوع الذي يعالجه، ودرجة صعوبته، ووفق ما نظن، فإنّه يمهد لمنعطف هام يلوح في أفق الفن السوري، وذلك على مستويين: الأول: تقني، بإدخاله شكلاً فنياً جديداً هو المسرح الجسدي، بما يحمله من إمكانيات تعبيرية كثيفة وفريدة. والثاني: ثقافي عام، يتعلق بإعادة الاعتبار لوظيفة الفن الاجتماعية، ولكن بعلو كعب تقني وفني، بعيداً عن شعبوية تسود معظم المقاربات الفنية للوظيفة الاجتماعية من جهة، وفي قطع مع التيه النخبوي من جهة أخرى، التيه الذي يتمسك بما بعد الحداثة، لا بتقنياتها المبدعة فحسب، بل وأيضاً بفلسفتها المثالية المفرطة في الذاتية، والمعبرة بعمق عن الاغتراب المدّوي الذي يعيشه الإنسان في كل مناحي الأرض.

 

فريق العمل

إخراج / كريوغراف / أداء: حسين خضور
دراماتورغ : هبة محرز
التأليف الموسيقي: حسين عطفة
تصميم الإضاءة : ريم محمد
سينوغراف (1) : ولاء طرقجي
سينوغراف (2) : سلمى حويجة
تقنيات صوت : ألمى البيروتي
سينوغراف مساعد : باسل جبلي ، منى مرستاني
تنفيذ الإضاءة : فيصل محمد
مساعد مخرج : سنا التقي
مساعد فني : سعيد بدور
تصميم بوستر وبروشور: ولاء طرقجي
تصوير فوتوغراف : علاء أبو فراج