بول كْلِي Paul Klee.... من أين هذا الضوءُ كلُّه؟

بول كْلِي Paul Klee.... من أين هذا الضوءُ كلُّه؟

بول كْلِي 1879- 1940 ، الألمانيّ السويسريّ ، لم ينلْ الجنسية السويسرية إلاّ بعد وفاته ، إذ أن أباه ألمانيّ الجنسية   ؛  وفي سويسرا ، يعتمدُ قانونُ الجنسية ، الأبَ ، لا الأمّ .

لا يبدو هذا التفصيلُ ذا أهميّةٍ ، لكنه أثَّرَ عميقاً في حياة الرجل ، وسبّبَ له متاعبَ حقيقيةً ، في الفترة النازيّة بخاصة ، إذ فُصِلَ من العمل ، وصودر عددٌ من أعماله.

ومن المعروف أن بول كْلِي كان مؤثراً في حركة الباوهاوس الشهيرة ، وكان له حضورٌ  في دوسلدروف وجامعتِها .


*


كان التكوين الأساسُ لبول كْلي ، الموسيقى .
وما كان يَخْطُرُ على باله أو على بال أحدٍ  ، أن الرسمَ سيكون حياتَه المفعمةَ غنىً ، والعميقةَ تأثيراً.
في 1914
ذهبَ إلى القيروان.
ومن القيروان عاد رسّاماً !


*


لوحته " بوّابات القيروان " ، ظلّتْ مصدرَ استغرابٍ لديّ حتى اليوم .
كما أنها كانت في عُمْقِ زوراتي  غير القليلة  إلى تلك التربة الطاهرة  من البلاد التونسيّة .
كنت أتساءلُ متملِّياً " بوّابات القيروان " :
لكنّ القيروان ليست متدرِّجةً  ...
كم كنتُ جاهلاً !


*


في منتصف القرن الهجريّ تماماً ( 670 ميلادي ) بلغَ عُقبةُ بن نافع ، المكانَ ، وقالَ :
هذا قيرواننا ، الـمَـقِيل ...
وهكذا كان المعسكرُ ، والمسجدُ الجامعُ الذي ظلَّ أوسع مسجدٍ في ديار المسلمين حتى اليوم .
أعمدةُ المسجد ثلاثمائة وستّون ،  ولكل عمودٍ منها تاجٌ مختلفٌ .
وثمّتَ المزولة الشمسيةُ .
والمنبرالأول .
المنبر الجديدُ جيء به من بغداد يوماً ما !
كلّما زرتُ القيروان ، مضيتُ إلى المسجد ، لأقرأ ما تيَسَّـر من آيٍ .
في زورتي الأولى قلتُ لصديقي بشير قهوجي المسرحيّ : يا بشير أريد أن أمضي وحدي .
هكذا مضَيتُ وقرأتُ في أحد مصاحف المسجد :
ربِّ اشرحْ لي صدري ، ويَسِّرْ لي أمري ، واحلُلْ عقدةً من لساني يفقهوا قولي ...


*


كنتُ أظنني وحيداً .
لكني التفَتُّ لأجد ، حسيناً ، شقيقَ بشير ، يجلس على مبعدةٍ يسيرةٍ مني .
كان بشير أرسله ورائي !


*


أعودُ إلى ما استغربتُه من تدرُّجٍ في لوحة بول كْلي .
في طوبوغرافيا القيروان ، لا بدّ من أن أذكر أن البقعة التي اختارها عُقْبةُ ، معسكراً  ، ترتفع ستين متراً عن سطح البحر .
وبإمكان المرء هناك الإشرافُ على البحر والجبال والصحراء .
لو أن مركبة فضاءٍ كُلِّفَتْ اختيار قاعدة عسكرية عظمى للسيطرة على البلاد التونسية لما وجدت خيراً من القيروان !
لكنك وأنت تُغِذُّ السيرَ إلى القيروان لا تحسُّ بأن الأرض ترتفع بك  ...
الارتفاع متدرِّجٌ حتى لا يكادُ  يَبِين .
كم كان بول كْلي دقيقاً !


*


يقال عن بول كْلي إنه :
انطباعيّ
سورياليّ
تجريديّ  ...


*


قد نجد في لوحته القيروانية تجسيداً وتطبيقاً لهذه الثلاثية العجيبة .
هناك تحليل الضوء مع كل الظلال والتدرُّجات .
هناك الإيماء السورياليّ إلى عالَمٍ قائمٍ وغيرِ قائمٍ .
وهناك الاختزال التجريدي  للأشياء والبشَر .


*


لَكأنّ ضوءَ القيروان الأوّل ظلَّ يُفْعِمُ نفسَ بول كْلي حتى صار نوراً .
هكذا أرى عمله : مسجد .
وهكذا أرى عمله : أغنية عربية !


*


كم هو تعيسٌ ذاك الكاتب التونسيّ الذي قال عن القيروان :
مدينة الغبار والذباب ...


*


 ألأنه يعيش في أميركا ؟

لندن 22/10/2013

آخر تعديل على الثلاثاء, 12 تشرين2/نوفمبر 2013 22:20