صحفي صغير..! من قلب مشفى حكومي

صحفي صغير..! من قلب مشفى حكومي

تتطلب كتابة القصص الإخبارية أخذ آراء ووجهات نظر متوازنة، لبناء قصة صحفية تقارب الحقيقة. ومن هذا المنطلق، لا بد من تنبيه القارئ بأن ما سيقرأه هنا، لا يخضع للمعايير الصحفية المتعبة. فالحكاية التي يوشك على سماعها، تكتفي فقط بوجهة نظرٍ واحدة. هي حكاية أحد المستشفيات الحكومية كما يرويها طفلٌ في الحادية عشر من عمره.

دخل مجد المستشفى بعد تشخيص حالته بمرض نادر أقعده عن الحركة بصورة مؤقتة. وهناك أمضى، ثلاثة أشهر ونصف، قضى معظمها في قسم العناية المشددة. بالرغم من تطور المرض ومضاعفاته، احتفظ مجد بوعيه، ليراقب ما يجري حوله، ومن هذا المنطلق، يمكن عدّه «أصغر مراسل صحفي» من قلب المستشفى.
بخلاف كوابيس من في سنه، حول وحوشٍ في الخزائن، أو ساحراتٍ شريرات، وجد مجد نفسه أمام مخاوف أخرى مختلفة تماماً. هناك في غرفة العناية المشددة شاهد للمرة الأولى عدداً كبيراً من المرضى الموصولين بالأنابيب والأجهزة، وشاهد أيضاً مريضاً ينزف ويخضّب سريره بالدماء.


الليل في المستشفى طويل..

عند سؤاله عن أكثر الأوقات التي قضاها إخافة داخل قسم العناية المشددة، يجيب مجد قائلاً: أنه كان يكره ساعات الليل التي تمتد من (12) ليلاً حتى السابعة صباحاً. ويضيف مبرراً السبب: أن هناك مرضى قد ماتوا ليلاً دون أن ينتبه إليهم الأطباء والممرضات المناوبين.
كان مجد في ليالٍ عديدة يعجز عن النوم، فيبدأ بمراقبة المرضى وأجهزة «المونيتور». حيث أن فترة مرضه الطويلة أكسبته القدرة على تفسير دلالات بعض الأرقام التي تظهر على الشاشة. وهكذا يقول: أنه كان يقلب نظره في الغرفة ليطمئن عما يجري حوله، ويضيف: أنه في إحدى المرات نبّه الممرضات إلى «نقصٍ في أكسجة أحد المرضى»، وأنه في مرةٍ أخرى حذّرهم من أن هناك طفلاً يوشك على السقوط.. تلك التفاصيل لم تكن تعني شيئاً سوى أن الطفل لم يكن يشعر بالأمان، ولذلك أحس أنه يتوجب عليه البقاء صاحياً. 


أحلام الصغار الوردية!

أطباء المستشفى  في عيون ولدٍ صغير
كان مجد يمتلك، كأي طفلٍ في عمره، أحلاماً وردية عن الأطباء الذين يسارعون لعلاج المرضى وتقديم الدواء لهم. إلا أن تلك الصورة الخيالية تكسرّت أثناء علاجه، وهو يرى أطباء متدربين يقفون حائرين دون أن يعلموا في بعض الحالات ما هي الخطوة الصحيحة للتصرف. يتذكر مجد كيف أشرف على الموت مرة. كان يسمع كل ما يجري حوله دون أن يستطيع فتح عيونه. يسمع أمه تصرخ وتسأل الطاقم الطبي ما العمل دون أن تلقى إجابة.
يصنّف مجد الأطباء الذين عالجوه إلى صنفين: من يحب المرضى ومن يكرههم. من كان مستعداً لإجراء عملية انعاش أكثر من مرة. ومن اكتفى بمحاولة إنعاشٍ واحدة قبل أن يفقد الأمل، ويعلن موت مريضٍ جديد. هو مقياسٌ خاصٌ للحب يضعه عقل الطفل. حول التفاني والإخلاص في العمل، وبذل الجهد الحقيقي لإنقاذ النفس البشرية قبل إعلان لحظة الموت.


الحرب ليست مبرراً..

كمن في سنه، يدرك مجد أن هناك حرباً دائرة في البلاد، قلبت الحياة رأساً على عقب. أسألهُ إن كان يعتقد أن الحرب هي السبب في الوضع الحالي للمستشفى. أسأله دون أن أتوقع أن يفهم تماماً عما أتحدث. لكنه يجيب دون تردد: ربما تكون الحرب مسؤولة عن نقص الأدوية. فقد اعتادت الممرضات على التأكيد والقول بأن المستشفى في السابق كان قادراً على تأمين الأدوية والمستلزمات الضرورية لعلاج المرضى جميعها، وأن الأدوية كانت أرخص سعراً. لكنه يستدرك مستنكراً: «الحرب مسؤولة عن فقدان الأدوية فقط، لكن دمشق مليئة بالأطباء! كان من الممكن تعيين أطباء يحبون الأطفال ويعتنون بهم أكثر».


حكايا الأطفال

بالتأكيد تفتقد حكايا الأطفال إلى  العقلانية، وقد تميل إلى المبالغة، ومن جهةٍ أخرى قد يبدو الحديث عن الوضع النفسي للمرضى ومعاناتهم في المستشفيات الحكومية نوعاً من الترف، تحديداً في بلادٍ مات الكثير من أطفالها تحت الأنقاض أو القصف والقذائف. ربما يكون مجد محظوظاً لأنه وجد سريراً يستقبله، وكادراً يبذل الكثير من الجهد لإنقاذه. لكن ذلك قد لا يغير من قسوة التجربة التي عاشها الطفل، وهو يشعر بأن هناك بعض الأطباء والممرضات لا يأبهون لموت المرضى، أو لا يبذلون الجهد الكافي لإنقاذهم. الحرب لم تكن مبرراً كافياً بالنسبة له، ولا يجب أن تكون كافيةً بالنسبة لنا، فتراجع قطاع الصحة والمستشفيات الحكومية عن مهامها  في تأمين العلاج اللائق للمواطنين باعتباره حقاً من حقوقهم، كان مع مئات الأسباب الأخرى، سبباً لتزايد الاحتقان الشعبي الذي مهّد الطريق للحرب في المقام الأول.