أفكارٌ مبعثرة على باب البيت
عدسة قاسيون

أفكارٌ مبعثرة على باب البيت

يجلس أحد الشبان في باب بيته يدخن سيجارته، تقوده فكرةٌ إلى أخرى، ليتذكر جملةً كان يسمعها بكثرة في الأشهر الأولى من بدء الأحداث في البلاد، حينما كان يقترح على بعض أصدقائه من النشطاء السياسين الغاضبين، خَجِلاً، وبصوت منخفض -أقرب للاعتذار- ضرورة التدرج في المطالب، وتحديد الأهداف والشعارات بدلاً من المطالبة بقلب البلاد رأساً على عقب بين ليلة وضحاها. يتذكر الآن بوضوح تام الازدراء الذي قوبل به كلامه، ونظرات الاتهام التي قذفته من كل صوب لأنه لم يكن «ثورياً» بالدرجة الكافية، «لا وقت لكل ذلك، فات الأوان الآن»،  تلك كانت الإجابة الحاسمة التي تناقلتها جميع الشفاه: «لا وقت للعمل السياسي، الموضوع خرج عن السيطرة». 

يتذكر وجه ابن عمه العائد من إحدى جبهات القتال وهو يعده بقرب انتهاء المعركة وأن عمليات السحق والتنظيف تجري على قدمٍ وساق ودبابة، حاول دون جدوى أن يقنعه بأن الأزمة أعمق من أن تختفي هكذا بلمح البصر، وأن العملية السياسية «طووووويلة»، لكن لا، لاوقت أيضاً. الوقت ضيّق، والوقت من ذهب، والوقت سيفٌ.

يتذكر كل ذلك الآن، وهو جالسٌ في زاويته المعتادة، يشرع في الضحك، يضحك إلى حد البكاء، ويزداد وجهه تغضناً بتجاعيد تركتها السنوات الثلاث الماضية، «قال ما في وقت !» ويكمل كما لو أنه يروي نكتة: «طلع ما في غير الوقت!».

يعاوده الشعور بالضيق ذاته بعد أن عبرت سحابة الضحك، فالوقت ذاته الذي كان الجميع يؤكد نفاده يلتف حول رقبته اليوم كأفعى. هناك فائض من الوقت يباع ويشترى في البلاد على الحواجز الأمنية وأفران الخبز، هناك عشرات الساعات التي يجلس فيها المرء منتظراً عودة التيار الكهربائي ومحدقاً في الفراغ بعد أن ملّ اختراع الأساليب للتحايل على الظلام.. هناك الوقت والوقت فقط، يمشي دون هدى، سنة، اثنتين، ثلاث.

الوقت يكمل دورانه البهلواني بحركة بطيئة على ساعة الحائط بالرغم من أن «السنين تركض»! تلك مفارقةٌ أخرى كافية لإثارة غضبه وسخريته في آن معاً. لديه ما يكفي من الساعات لتذكر ذلك كله، فالحرب أمٌ غاضبةٌ، عاقبته بحبسه في غرفة النوم، حتى يراجع حساباته ويكتشف مكامن الخطأ. 

بالرغم من أنه يدرك أن المشكلة لا تتعلق بالزمن، إلا أن تبسطيها بهذه الصورة بدا له اليوم مريحاً، لم يكن الوقت ثقيلاً في البداية كما هو الآن، لأن الناس حينها لم تنشغل بإحصاء الدقائق، كل واحدٍ على اختلاف موقفه كان منشغلاً بعملٍ ما. إلا أن سطوة السلاح أقعدتهم، وأجبرتهم على الالتزام بمقاعدهم كأنهم غرباء في محطة انتظار، كأنهم حكّامٌ في مبارة كرة قدم، تتجدد أشواطها وضربات الجزاء فيها إلى ما لا نهاية، يضحك حينما يفكر أن عدد الحكّام في هذه المباراة يفوق عدد اللاعبين!  لديه ما يكفي من الوقت كل يوم ليعيد التفكير بالحكاية كلها من أولها إلى آخرها، وتقليب الاحتمالات محاولاً الوصول إلى نهاية تختلف عن هذه التي يعيشها الآن، وهو جالسٌ على عتبة منزله يدخن سيجارة ويحزن. 

وبينما ينفث خيوط الدخان الأخيرة، قرر أنه لن يسمح لأحد باستعجاله بعد الآن. ارتاح حينما فكّر أن الوضع لن يبقى هكذا إلى ما لا نهاية، سيأتي وقت تحتاجه البلاد فيه، وسيكون حينها مشغولاً، لأن العمل كثير والمهام كبيرة، بحيث سينسى تفقد الوقت، ابتسم للفكرة العابرة، أطفأ جمر سيجارته على بلاط المدخل، أغلق الباب خلفه وخرج من المنزل.