صراخ «رقمي».. سجن «افتراضي»..!

صراخ «رقمي».. سجن «افتراضي»..!

غبار إلكتروني
أتعرفون ذلك العجوز الذي يجلس دائماً أمام باب بيته..؟! ذلك الهرم الذي تخلت عنه أسرته وأولاده وهجره أصدقاؤه ولم يعد يملك سوى كرسي خشبي صغير يضعه على تلك الزاوية

..!.
هو موجود في كل حارة.. وكل حارة تكرهه.. يضايق كل من تلتقي به عيناه.. يعنف الأولاد، ويخطف كرتهم كلما دنت صوبه.. يزعق في وجه جيرانه.. يعنف الصبايا ويشتمهن.. يبحث عن شجار مع شبان الحي.. وإذا لم يجد من ينغص عليه حياته يصرخ في الليل على الكلاب الشاردة ويقدفهم بالحجارة.. تماماً كما هذا الإنسان الذي يتحدث ويجادل ويصرخ بلا توقف، يحوي «الفيسبوك» أشخاصاً على صورته ومثاله.. وهم بالتأكيد ليسوا عجائز مثله.. لكنهم يملؤون الفضاء بالحروف.. يلوثون الهواء بالصراخ.. وهم.. مثله.. يعلقون على كل شيء.. يعلمون بكل شيء.. يشتمون ..يرغون ويزبدون.. فقط للحصول على قليل من الاهتمام..
صراخهم ملأ الفضاء.. فيه كتابات يومية، يضرب القدم بالأرض «حَرَدَاً» واستنكاراً لخبو شعلة «الثورة».. ولم يخطر ببال هذا «المناضل» أن يعود إلى «قياداته المباشرة» -صاحبة القرار منها بالطبع- لتحديد مكامن الضعف في حراكه.. لإعادة البوصلة إلى اتجاهها الصحيح بدلاً من الاستمرار بالاحتشاد الأعمى حول شعارات إلكترونية طنانة مل منها الجميع.
من الإنسان.. ولأجله
 لم يدرك بعد بأن عليه عدم الاكتفاء بدائرة ضيقة من الأصدقاء الافتراضيين تجتر الحقد في حلقة مفرغة، بأن عليه تقويم مداركه، وتنقيح أفكاره، وتعريضها للشمس مثلما يفتح الجميع نوافذ منازلهم في أول أيام الربيع.. بدلاً من أن يتحدث عن نصرٍ إلهي وفتح قريب من «كتائب» و«ألوية» تكاثرت، ففاجأت أكثر السوريين تشدداً..
 وجوه غريبة لا تعبر عن أحد.. عبوس مفتعل وفوهات بنادق توجه للأعلى.. تثير النفور الفوري كلما أتت على ذكر «الله» الذي يبدو أنه يتحاشى التعاطي معها.. تقفز الأمثلة تباعاً أمام العين.. ومع كل كلمة تُقرأ من ورقة بيضاء المظهر سوداء الأفكار.. وبين كل «رفعة سبابة»، يبتعد المستمع أكثر فأكثر، ثم يعود ليعبس في وجه من يتهمه بأنه وقع في فخ «أسطورة حماية الأقليات» فيشير إلى الشاشات ولسان حاله يقول: «وهاد؟؟ شو بعمل فيه؟».
الحرية ليست طائفية.. والظلم لا يرتدي حجاباً أو صليباً.. وأنّات الفقر وآهات التعذيب لا تحتاج لصك إلهي وهي أشد بلاغة من أي حديث، لأنها ببساطة مفهومة من الإنسان.. ولأجله.. أياً كان.. وفي كل مكان..
غياب في الذاكرة
وللعلم فقط.. توجد قرية كبيرة تقع في أقصى الريف الشرقي السوري النائي تتعرض بشكل يومي لقذائف وصواريخ لا تعد ولا تحصى، حتى صارت مضرب المثل في الخراب والشؤم.. يهجرها أهلها بالعشرات يومياً في مشهد «تغريبة» قديم جديد..
هي واحدة من مناطق عديدة تلاشت تحت سحب الغبار حتى غابت عن الذاكرة.. وجوه عابسة وثياب بالية لآلاف البشر، تعوّد الكثيرون منذ سنوات على تحاشيهم في المدن الكبيرة بسبب لهجتهم الجلفة وملامحهم القاسية وسذاجتهم المفرطة، إنهم أبناء سوريا من الدرجة الرابعة أو الخامسة على أفضل تقدير.
مرثيات
في المقابل.. تطالعنا مرثيات يومية لمناطق أخرى تبدو أوفر حظاً في استجداء دموع السوريين.. ومنشوراتهم، وصورهم، والسواد والكآبة في تعليقاتهم.. تبدو أكثر قرباً منهم -وإن كانت تلك المناطق ذاتها مجهولة الهوية والنسب منذ عدة شهور فقط- فقط لأنها موضة هذا الأسبوع على الجدران الإلكترونية.. لن يستطيع «النفاق الرقمي» تغطية حقيقة «أصحاب القلوب الحنونة» و«دعاة حملات النخوة والمروءة» وخطابات «الداعمين والناشطين» الفيسبوكية.. فبدلاً من تغيير صورة البروفايل وتعداد أسماء الشهداء ونشر صور الأطفال والنساء المهجرين والمبعدين.. عليه أن يكون قادراً على تحمل رائحة عرق شيخ سبعيني لم تسعفه عكازه في مسيره الصحراوي الطويل، فيضع الكتف تحت الكتف بدلاً من أن يكفهر وجه «المناضل» ذاته عندما يضطر إلى الجلوس بجانبه في أي وسيلة نقل عامة..
بدلاً من صورة..
في هذه الظروف الحالكة.. يعد الابتسام في الوجوه نضالاً.. ضم الأطفال نضال.. مواساة العجزة نضال.. قسم الرغيف والمشاركة بنقطة الزيت وقطعة الجبن نضال.. أعط مقابل كل كلمة فيسبوكية لقمة لأول محتاج تراه.. واستبدل كل صورة جديدة على حائطك برغيف خبز.. فلن تقدم صورة لـ«عدسة شاب متفزلك» أو كلمة «حداد» سوداء.. أو مرثية كئيبة عن «السلمية» أو «حمص» أو «حلب»، شيئاً ولن تؤخر.. ولن تجزي هذه الأساليب «التثاقفية» المترفعة عن رائحة الدماء والعرق بعطور مستوردة هجينة سوى مئات الإعجابات الفارغة ومئات الشتائم العادلة.